إن أول كتاب عن الحصان وتربيته كتبه فارس حثّي عنوانه "كيف نربي الحصان ونعلفه وننظف العربة" قبل الميلاد بعشرات القرون. ومن الطبيعي جدا أن يكتب هذا الكتاب في الحصان، وليس في أي حيوان آخر، لأنه حسب نظرتهم أعظم حيوان في العالم. إنه مصدر الثروة والغنى، وهو الذي يجعل الإنسان ملكا أو إمبراطورا أو فرعونا. وحذف الحصان من التاريخ يعني حذف بلاغة الغزو والحرب والسبي والعبودية وملكة العبيد والمجد والعظمة والأبهة والخيلاء والغطرسة والمهابة والسرقة والاستيلاء والقمع والاضطهاد. . .
في آسيا الصغرى كانت تربى أسرع الخيول في العالم، على حد قول شاعرنا المتنبي:
يُقْبِلُهُمْ وجهَ كلِّ سابحةٍ أربَعُها قبلَ طرفِها تَصِلُ
فلما رآها الإغريق ظنوا، لسرعتها، أن الراكب والمركوب واحد، وأطلقوا على الاثنين اسم القنطور centaur وهو كائن نصفه الأعلى إنسان والأسفل حصان، ورويت الحكايات الكثيرة عن قوة هؤلاء البشر الخيول والإزعاجات التي يسببونها بعد أن يكرعوا الخمر كرعا. وكلما سمعوا باسم قنطور دب الرعب في نفوسهم واختفوا خلف الأبواب التي يقفلونها بإحكام خوفا من الإنسان/الحصان. وفي إحدى المرات أفسدوا حفلة زفاف. وهم مخلوقات شهوانية غريزية مندفعة – باستثناء بعضهم كما يزعمون – لا يمكن أن تقف عند حد أو تقلع عن عادة التدمير. وفي كثير من الأحيان يكون هذا التدمير عابثا، لا يعود عليهم بملكية أو ثروة. ومع أن الإغريق أبدوا إعجابهم بالقنطور إلا أنه كان مخلوقا مؤذيا لا يحبون الاختلاط به. إن بعض قادة الإغريق الجبابرة الذين قاموا بالمجازر تربوا – كما قيل – عند هذا القنطور أو ذاك.
أما الحصان الذي يحارب الشر ويقتل المخلوقات الشائهة فقد جعلوه أبيض بجناحين كبيرين وسموه بيغاسوس، وهو الذي استخدمه برسيوس في المهمات التي كلّف بها.
عندما قال الشاعر رديارد كبلنغ "أربعة هن أعظم الأشياء: المرأة والحصان والسلطة والحرب" كان قدم "بلاغة" تفصيلية. يكون أبلغ لو اكتفى بالحصان، فهو أداة الحرب والسلطة والمرأة. كان وليم بليك أبلغ منه وأشد إيجازا:
يتضور الكلب عند بوابة سيده
فينبئنا بدمار الدولة.
ويجول الحصان فوق الطرقات
داعيا السماء إلى الدم البشري.
قلنا من قبل إن بلاغة الحصان غيرت وجه التاريخ. فهي الأقوى والأطول. ولكن حتى كلمة حصان نفسها صارت لها بلاغتها الخاصة من أمثال الحصان الأسود (القضية الخاسرة) والحصان الأبيض (القضية الرابحة) والحصان الميت (الأمر الذي لا يعود) ومشاعر حصان (مشاعر هوجاء) وحصان الطاحون (أي الذي يدور حول نفسه دون أن يؤدي شيئا) وحصان طروادة (للتدمير، وفي علم الكومبيوتر هو البرنامج الفيروسي الخفي المدمر) والحصان الحديدي (المشاعر البليدة) ولو رحنا نتقصى مفردات بلاغة الحصان لما انتهينا بعشرة أسفار ضخمة، بل أكثر من ذلك بكثير. إن بلاغة الحصان هي الجزء الأكبر من تاريخ البشرية.
صار الحصان معبودا دنيويا فله سائس خاص (في إنكلترا يسمى رئيس الاصطبلات الملكية، ويكون من رتبة إيرل، وصاحب معرفة وخبرة بالخيل) وظهر لقب "دكتور الخيول" حيث في كل قرية يوجد أكثر من طبيب مختص بالخيول. وهو أول حيوان يتخصص به الطب. أما البياطرة العاديون فصاروا من أثرياء المجتمع. فقد يحدو البيطري أكثر من عشرين حصانا في اليوم. والحصان هو أول من انتعل الحدوة. وما نسميه اليوم "حدوة الحصان" صارت رمزا سحريا مع أن صاحبها أرعن أهوج ولكنه جبار مخيف يجلب الربح والخير. . . ولذلك وضعها الناس، من مختلف الأديان، فوق العتبات لأنها ترفس فتقتل كل معتد ولص وإبليس وجني. إنها تحمي المنازل وبيوت المؤونة. وصارت ترسم أو تعلق على سيارات نقل الركاب والبضائع في البلدان النامية. . . وما زالت في بعض القرى القريبة من الغابات توضع على مداخل القرية حماية من الذئاب والوحوش الضارية الأخرى.
إن "هوس الحصان" ليس سوى "هوس العظمة والتسلط" ومنذ ظهور الحصان في الحروب غدا معبود الكثيرين من الشعراء في بعض البيئات. ولو أن أبا الفرج صاحب "الأغاني" الذي رصد في أكثر من عشرين مجلدا القصائد الملحنة والمغناة، أراد أن يجمع ما قبل في الحصان لاحتاج أضعاف هذا العدد. إن بيتا لامرئ القيس يصف فيه الحصان:
مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا
كجلمود صخر حطه السيل من علِ
ما يزال يستحوذ على عقول العرب ويرون فيه قمة البلاغة العربية. إن كتاب "أنساب الخيل" الذي لا يسأل عنه أحد في هذه الأيام، والذي كانت الأيدي تتداوله قديما، هو استمرار لكتاب الفارس الحثي الذي مضى عليه آلاف السنين. وما زال الذين يتعاملون مع الخيول في هذه الأيام يطلبون إخراج قيد نفوس الحصان قبل أن يشتروه، ويتشددون في ذلك. وفي كتاب الثعالبي "فقه اللغة" ما يفصح عن الاهتمام الشديد والدقيق بالفرس.
* حنا عبود: (البلاغة من الابتهال إلى العولمة)
#حناعبود