أرسل أحدهم رسالة للكاتب المصري الكبير مصطفى المنفلوطي رحمه الله: مفادها أنه تزوّج منذ سنة زوجة صالحة طيبة القلب والسريرة وعاش معها أياماً جميلة، إلا أنها أصيبت برمد في عينيها فعميَت، فأصبح أعمى بجانبها، وقد بدا له أن يطلّقها ويتزوّج غيرها… فماذا ترى؟ وختم رسالته بـ" إنسان"
فأجابه المنفلوطي بنص مؤثّر يتدفق وفاءً فقال:
أيها الإنسان: لاتفعل، فإنك إن فعلت كان عليك إثم الخائنين وجرم الغادرين،وكن اليوم أحرص على بقائها بجانبك منك قبل اليوم، لتستطيع أن تدخر لنفسك عندالله من المثوبة والأجر مايدخر أمثالك من الصابرين المحسنين. لا تقل إنها عمياء فلاخير لي فيها
ولا غبطة لي بها، فإنك ستجد بين جنبيك من المروءة والإحسان والجود والإيثار ما يحسدك عليه الناعمون بالحور الحسان في مقاصير الجنان. اجلس إليها صباحك ومساءك، وحادثها محادثة الصديق صديقه، بل الزوج زوجه، وتلطف بها جهدك وروِّح عن نفسها ما يساورها من الهموم والكروب،
وقل لها: لا تجزعي ولا تحزني؟ فإنما أنا بصرك الذي به تبصرين، ونورك كالذي به تهدين.
أعيذكَ أيها الإنسان بالله ألا تجعل لهذا الخاطر السيّئ - خاطر الطلاق والفراق - سبيلاً إلى نفسك، فإنها لم تسئْ إليك فتسيء إليها، ولم تنقض عهدك فتنقض عهدها، فإن كنتَ لابد ثائرًا لنفسك فاثْأر من القدر إن استطعتَ إليه سبيلاً. إن عجزًا من الرجل وضعفاً أن يغضب فيمُدّ يده بالعقوبة إلى غير مَن أذنب إليه، ويعتدي عليه. إن لم يكن احتفاظُك بزوجك وإبقاؤك عليها عدلاً يسألك الله عنه فلْيَكن إحسانًا تحاسبك الإنسانية فيه.
إنك قد خسرتَ بصرها، ولكنك ستربح قلبَها، وحسْبُ الإنسان من لذّة العيش وهناءته في هذه الحياة قلبٌ يخفق بحبّه، ولسانٌ يهتف بذكره.
كتاب: النظرات.
قلتُ: رحم الله المنفلوطي، فما أعظمَ نفسه! وما أرقّ عبارته!