النصف المخفي
في روايته «خان الخليلي» يقول نجيب محفوظ إن «الكتب تهيئ للإنسان الحياة التي يهواها»، لكن بطل الرواية، أحمد عاكف أفندي، الموظف الغارق في قراءة الكتب لم تكن في ذهنه صورة للحياة مختلفة عن المألوف حتى تهيئه لها الكتب التي يقرأها.
كان أحمد عاكف الذي لم يكمل تعليمه بعد البكالوريا، يقرأ كتباً لا تعرف التخصص، ولا العمق. «كانت الكتب تفكر له وتتأمل بدلاً منه». وأمام هذه الشخصية وقف الباحث مصطفى البيومي في كتابه المهم عن «الوظيفة والموظفون في عالم نجيب محفوظ»، الذي تناول شخصية الموظف في تجلياتها المختلفة في مجمل أعمال محفوظ، بما في ذلك الالتباس بين صفتي الموظف والمثقف.
وحسب البيومي، فإن القراءة السطحية والمضطربة لم تمنع أحمد عاكف من أن يصبح شخصاً متميزاً بين أقرانه الموظفين الذين لا يقرأون، حتى أطلقوا عليه لقب الفيلسوف، وقد طاب له هذا الاسم، رغم شحنة السخرية التي ينطوي عليها، وهي سخرية معتادة عند الناس ممن يتظاهرون بالمعرفة، لكنهم لا يملكونها.
ولأن أحمد عاكف يقرأ فقط، ولا يفكر، فلم يكن صاحب رأي مستقر، فما يقوله اليوم قد يقول نقيضه في الغد، ربما لأنه نسي أصلاً ما كان قاله متأثراً بما قرأه. ولأن الأمور لا تعرف إلا بالمقارنة، فسرعان ما انكشفت هشاشة «ثقافة» الرجل حين ظهر في الرواية المحامي أحمد راشد، صاحب الأفكار اليسارية والعصرية، فبدا عاكف، كما هو فعلاً، ضحل المعرفة.
تمتلئ الحياة من حولنا بأمثال أحمد عاكف، ممن يمكن وصفهم بأنصاف المثقفين، أو أشباههم الذين يمثلون وباء على الثقافة، من دون أدنى فائدة يقدمونها لها، خاصة إذا قدر لهم أن يتبوأوا مواقع تيسر لهم التظاهر، وحتى التباهي بما لا يملكونه في الواقع.
قد يسأل سائل: أليس الأفضل أن يملك المرء بعض المعرفة حتى لو كانت سطحية خيراً من ألا يملك شيئاً منها على الإطلاق؟
والجواب هنا سيكون قاطعاً بالنفي. أنصاف الأشياء دائما مضرة. نصف الحقيقة أخطر بكثير من غيابها. فغيابها يصبح حافزاً للبحث عنها بغية بلوغها، ولو بعد جهد جهيد. أما نصفها فينطوي على درجة كبيرة من التضليل، عواقبه خطيرة، ومدمرة على صعيد حجب الحقيقة. لأن من يقولون نصف الحقيقة ينطلقون من معطيات «صحيحة»، لكنها جزئية، ليست سوى جزء من كامل الحقيقة، حيث يبقى الجزء الآخر محجوباً عن الأعين، لأن من يقول بنصف الحقيقة لا يعترف بأنها مجرد نصف، أو جزء، وإنما يزعم أنها كاملة.
- See more at:
http://www.alkhaleej.ae/studiesandopinions/page/D22F4127-49DC-431B-9C30-FE19CC602F6D#sthash.jecxaV0H.dpuf