إلا التاريخ الوطني...
يُروى أن صياداً كان كثيراً ما يعلق السمك بصنارته، وذات يوم استشاط زملاؤه الصيادون غضباً عندما لاحظوا أن الصياد المحظوظ يحتفظ بالسمكة الصغيرة ويرجع السمكة الكبيرة إلى البحر، عندها صرخوا فيه: ماذا تفعل؟ هل أنت مجنون؟ لماذا ترمي السمكات الكبيرات؟ عندها أجابهم الصياد: «لأني أملك مقلاة صغيرة».
نحن نفعل كذلك حين نترك كتابة تاريخنا لغيرنا، بحجة أن ذلك أكبر من إمكانياتنا ويضغط على أوقاتنا، فنحن من يمتلك الحس الوطني والمسئولية لحماية تاريخنا من أي عبث، فكتابة التاريخ المغلوط مهنة قديمة، الآن مازلنا نمتلك المقدرة على إظهار الحقائق، لكن بعد حين سيصبح ما هو موجود هو السائد والثابت، وستصبح كتبهم هي من مصادر وأمهات الكتب كما فعل من سبقهم.
التاريخ بوصفه كل ما يعني بدراسة الماضي مع التركيز على الأنشطة الإنسانية، يراه المؤرخ السخاوي بأنه الوقت الذي تضبط به الأحوال، جاءت عليه دعوات ترى ضرورة إعادة كتابته، فالشاعر والفيلسوف الألماني الكبير يوهان فولفجانج جوته كان كثيراً ما يقول «علينا إعادة كتابة التاريخ بين الحين والآخر»، إن إعادة الكتابة لا تعني بالضرورة البدء من الصفر أو تفنيد ما كتبه الآخرون، إنما الإعادة تعني النظر من جديد في الروايات والأحاديث غير المتسقة والخارجة عن الصيغ المتداولة، إعادة الكتابة تعني مزيداً من التحليل والكشف عن النقاط المبهمة، وتسليط الضوء على الحوادث بجوانبها الاجتماعية والاقتصادية، التقنية الحالية طريقة جديدة لاستيضاح الحقيقة فقبل أيام نشرت صحيفة «الوسط» أن الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز أمر باستخراج رفات بطل الاستقلال ومؤسس ورئيس كولومبيا الكبرى في القرن 19 سيمون بوليفار، وذلك لإجراء اختبارات لمعرفة ما إذا كان مات مسموماً في كولومبيا أو توفي نتيجة إصابته بمرض السل العام 1830م بحسب الرواية التقليدية، جرى ذلك على الرغم من تحذير المحللين من أن إعادة فتح القضية سيزيد من توتر العلاقات بين فنزويلا وكولومبيا، ربما تكون هناك دوافع سياسية، أو ربما يقصد بها معرفة الحقيقة، لكن التقنية الحديثة سترجح أي الاحتمالين أما التغيير أو الثبات وعندها سيتغير التاريخ. في الآونة الأخيرة رأينا تسابقاً وحماسة منقطعي النظير في كتابة الروايات والمسلسلات التلفزيونية العربية والتي تعنى بالتاريخ، أو تقديم دراماً وقصص في سياق تاريخي مرتبط بتحولات سياسية وفكرية عصفت بتلك الفترة التاريخية وأثرت على شخوصها، غالبية تلك الأعمال الأدبية تسيء للتاريخ، إذ ما هي سوى حكايات وأساطير يعاد نثرها وتفكيكها ومن ثم تركيبها لتقدمها بثوب جديد ومخيلة جريئة على التاريخ، فمعظمها - وليس جميعها - ظن وتخمين وبعضها تحامل وهوى، وهي محاولة للتحكم بمصير الأجيال القادمة وإخبارهم بالحقائق من وجهة نظر كتّاب تلك الروايات والدراما.
إن من يتصدى لكتابة التاريخ الوطني وإعادته ينبغي أن لا يخضع لأي إملاءات أو تحقيق غرض ذاتي، أو السعي نحو بناء هوية جديدة يقصد بها تزييف التاريخ من أجل إعادة تشكيل أيديولوجيات مغايرة، تفند ما سبق ببناء مغلوط ومقصود، في البحرين تجري محاولات لإعادة كتابة التاريخ برؤية تحمل في طياتها مخاطر كبيرة، صحيح أن التاريخ ليس ملكاً لأحد لكن من يريد إعادة تقييم الحوادث من جديد، ينبغي أن يكون برؤية موضوعية وتوجه صادق لبناء الذات البحرينية وشخصيتها التاريخية بروح وطنية خالصة.
رملة عبد الحميد
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 2878 - السبت 24 يوليو 2010م الموافق 11 شعبان 1431هـ