#مصر|#حزب_الوسط|مقال رأي| الكاتب "ساري عرابي" - يكتب: الضفّة الغربية.. عن نقد فلسطينيّ للمقاومة وأثمانها
لن يكون مفاجئا أن يشتدّ الإلحاح على نقد المقاومة المسلّحة بعد حرب الإبادة الجماعية على الفلسطينيين في قطاع غزّة، للهول الفادح الذي اتسمت به هذه الحرب وما انطوت عليه من نُذر الخطر الجسيم على الفلسطينيين وجودا وقضية، وإذا كان البعض سوف ينظر إلى عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر بوصفها قد وفّرت الفرصة لإنفاذ الإسرائيلي لخططه المعدّة لاستكمال ما لم ينجزه بن غوريون، فإنّ حرب الإبادة تلك، فرصة لبعض مثقفينا وسياسيينا لتأكيد نقدهم على هذا النمط من المقاومة، لا سيّما مع المخاوف القائمة من السياسات الإسرائيلية في الضفّة الغربية، وزيادة الاجتراء الإسرائيلي على اقتراف الجرائم بعد حربه مطلقة اليد في غزّة، فنقلها وبدرجات متفاوتة إلى الضفّة الغربية ستكون خطوته التالية، بمعنى؛ وكما أنّه يجري اتهام الضحية، مفهوما أو منطوقا، بتوفيرها الذريعة أو الفرصة، على تمييز بينهما لدى بعض مثقفينا، للإسرائيلي ليتوسّع في سياسات القتل والتهجير، فإنّ هذا الإسرائيلي يوفّر لذلك البعض من المثقفين الفرصة للتأكيد على مواقفهم تلك من هذا النمط من المقاومة، لتتحوّل سياسات "كيّ الوعي" و"عقيدة الضاحية" وربما الآن "عقيدة غزّة" من الفعل الإسرائيلي إلى التنظير الفلسطيني!
وينبغي ألا يُغضِب هذا الاستنتاج أيّ أحد في سياق النقاش الهادف إلى تداول الأفكار، والبحث فيما هو أفضل لشعبنا وقضيتنا، فإنْ جاز اتهام المقاوم بتوفير الذريعة أو الفرصة للإسرائيلي، فإنّه يجوز وصف أطروحات من يقول ذلك بأنّها تأكيد نظري لسياسات "كي الوعي" الرامية إلى تيئيس الفلسطينيين، وحملهم على الندم على مقاومتهم، وترهيبهم. فاختلافنا إنّما هو مع مضامين ذلك النقد ومآلاته لا مع نوايا أصحابه، وهنا يجدر التأكيد على جملة نقاط تمهيدية لهذه المناقشة، التي أعتذر على طولها سلفا:
أولا- لا يكاد يقول أحد، من منتقدي المقاومة المسلحة، بأنّه يعترض على الحقّ المبدئيّ للشعب الفلسطيني في انتهاج هذا الخيار، ولكنّ اعتراضه، بحسب ما يقول، ناجم عن الملابسات الخاصّة بالقضية الفلسطينية التي تجعل ضرر هذا الخيار أكثر من نفعه، بيد أنّ واقع الحال يكشف عن كون هذا النقد أقرب لأن يكون أيديولوجيّا منه إلى أن يكون سياسيّا، فعمليات الانتقاء الواعي أو غير الواعي للمعطيات والوقائع والأحداث، وإعادة تأويلها، لا تتوخّى فهم الأمر في نفسه، بحسب السياقات والملابسات، وإنّما تتوخّى التأكيد على فكرة مسبقة حاضرة وثابتة ولحوحة. وليست القضية هنا في الإلحاح طويل الأمد على هذا الموقف، بحيث يمكن لنا المساءلة: متى يصبح هذا الحقّ المبدئيّ قابلا لتفعيله في الواقع؟! ولكن في ذلك التحوير الواعي أو غير الواعي للمعطيات، للتأكيد على صوابية تلك الأطروحة، وهذا ما تفعله الأيديولوجيا بالضبط؛ ترى ما تريد وتتغافل عمّا لا تريد، وتعيد تأويل ما لا يناسبها، فتقفز عن الكثير من المقدّمات التي لا بدّ من الإتيان عليها لفحص صوابية الأطروحة النقدية.
ثانيا- ما سبق من وصف طبائع ذلك النقد بالأيديولوجية والدوغمائية، لا ينبغي أيضا أن يُغضب مثقفينا المحترمين الذين نناقش أطروحاتهم، ولا نناقش أشخاصهم المحترمة ولا نواياهم الصادقة، فإنّهم بدورهم، أو بعضهم على الأقل، يصوّر مخالفيه بأنهم "يقدّسون هذا الشكل من المقاومة"، يقدّسونه لا بكونه حقّا مبدئيّا فحسب، بل وبكونه خيارا ينبغي أن يكون حاضرا باستمرار، دون السعي والمحاولة من هؤلاء المثقفين للبحث إن كان التمسّك بهذا الخيار ناجما أيضا عن ملابسات وحيثيات خاصّة، بحسب فهم أصحابه للقضية الفلسطينية وطبيعة الصراع مع العدوّ، لا عن مجرّد التقديس له، وذلك علاوة على عدم نظرهم في كونه قد تفرضه حتميات مادية (لا غيبية دينية). وقد يجدر ببعض هؤلاء المثقفين بالنظر إلى خلفياتهم اليسارية القديمة، إعطاء شيء من الاهتمام للتفسير المادي للأفعال البشرية، بدلا من الاقتصار على التنظير الثقافي أو التحليل السياسي الواقف على سطح الواقع.
وبما أنني سوف أحاول أن ألفت النظر إلى بعض البنى المادية تلك، وإلى بعض الوقائع والحوادث التي يغفل أو يتغافل عنها بعض مثقفينا، فمن المناسب التأكيد على أنني لا أتقصد الردّ على أحد بعينه، فالمناقشة تستعرض جملة أفكار توزّعت على عدد من الأشخاص، وكلّ من ظنّ أنّه من جملة هؤلاء الأشخاص، فليتأكد أنّه مقدّر جدّا، إذ لن يُتعِب عاقل نفسه في مناقشة مطوّلة مفصّلة مع من يشكّ في سلامته النفسية، أو قدراته العقلية. وهذه المناقشة لا تهدف إلى التنظير لخيار بعينه، ولا إلى نقض خيار آخر، ولكن إلى دحض ربط العنف الإسرائيلي بخيارات الضحية، وإلى إظهار ما يغيب عن نقد مثقفينا في تفسيرهم لظاهرة المقاومة المسلحة، أو دعوتهم لخيارات أخرى لم يبحثوا في شروطها الموضوعية.
أولا- انطلاقا من التصوّر المسبق، لدى ذلك البعض من مثقفينا، الذي يربط العنف الاستعماري عضويّا وماهويّا بفعل الضحية، ليكون فعل الضحية عاملا حاسما في تعظيم ذلك العنف أو تخفيفه، لتتحمل الضحية وفق هذا الفهم مسؤولية تأسيسية عن عنف المستعمر. وانطلاقا من اتهام بعض الفلسطينيين بأنهم يقدّسون المقاومة المسلحة، يجري باستمرار اقتراح نموذج الانتفاضة الأولى بديلا عن المقاومة المسلحة، أو أيّ نضال يمكن وصفه بكونه مدنيّا شعبيّا غير مسلح، وهنا يقفز صاحب هذه الأطروحة عن المعطيات التالية:
1- قد لا يوجد فلسطيني واحد لا يرجو أن يهبّ الفلسطينيون في فعل نضاليّ واسع يحاكي الانتفاضة الأولى، فحتّى الفصائل التي تنتهج المقاومة المسلحة دعت الفلسطينيين إلى ذلك، فعدم ظهور هذا الخيار في الواقع، لا يتعلّق بعدم الاقتناع المبدئي، أو بتقديس المقاومة المسلحة، إذ الفعل الشعبي العامّ يتطلب شروطا موضوعيّة لا بدّ من توفّرها لتمكّن له الانطلاق والاستمرار، وقد ناقشت هذه القضية مرّات كثيرة من قبل.
2- وبينما يصف أحد المثقفين عدم التفاعل الكافي في الضفّة الغربية والأراضي المحتلّة عام 1948 مع حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية على قطاع غزّة، بوصفه (أي عدم التفاعل الكافي) يعبّر عن وعي عميق بالنوايا والسياسات الإسرائيلية التي تسعى للانتقال بنحو أكثر عنفا لبقية المجتمعات الفلسطينية، وعن عدم اقتناع بخيار المقاومة المسلحة، فإنّه لا يقول لنا عن أيّ شيء يعبّر أيضا عدم انتهاج الانتفاضة الشعبية المدنية من مجتمعات الضفة الغربية والأراضي المحتلة عام 1948؟! هذا نموذج على الانتقاء والتحوير وعدم التفكير الكافي في المقولات مُطلقة الزمام! فالتناقض واضح! فهو يدعو إلى شيء لم تستجب له الجماهير، لكنه يصف عدم استجابتها لخيار غيره بأنّه وعي عميق!
3- فإذا جرى الاستدلال بأنماط المقاومة المسلحة الحاضرة في الضفّة الغربية الآن، على كونها معبّرة عن إرادة مجتمعات الضفّة الغربية، سيقول ذلك البعض من مثقفينا إنّ هذه الأشكال مفروضة من فصائل فلسطينية بعينها. فهل هذا حقيقي؟! عن أيّ شيء كانت تعبّر العمليات التي وُصفت بأنّها فردية أو ذاتية الدافع والتي تعاظمت أواخر العام 2015 ولم تنقطع منذ ذلك الوقت وظلّت بوتائر متباينة؟! فالفتية والفتيات الذين لم يجدوا إلا السيارات وسكاكين المطابخ، هل كانوا سيمتنعون عمّا هو أكثر تأثيرا لو امتلكوه؟! فما ينطلق من عمق المجتمع، ومن شبّان وفتيات غير مؤطّرين ولا مندفعين من توجيه حزبيّ؛ أكثر دلالة على وعي هذه الشريحة العمرية من فلسطينيي الضفّة الغربية، وهو ما يستدعي فهما معمّقا لدوافعها، بدلا من إلقاء رؤانا الخاصة على مجتمعات الفلسطينيين رغما عنهم. وبالتحليل الماديّ الصرف، هل يمكن فصل أنماط المقاومة القائمة الآن في الضفة عن سلسلة الهبّات وما تضمّنته من عمليات فردية منذ العام 2015 فصاعدا؟!
3- يبقى السؤال عن غياب الانتفاضة الواسعة في الضفة بديلا عن المقاومة المسلحة. يقول بعض مثقفينا في نقدهم لخيار المقاومة المسلحة، إنّ غياب الإجماع الفلسطيني يجعل خيار المقاومة المسلحة من جهة الاستمرار فيه صعبا، وآفاقه محدودة، ويجعل القدرة على احتواء تداعياته أصعب. وهذا صحيح تماما، أوافقه، وأقوله، وقلته عشرات المرات في مقالات وحوارات ومداخلات تلفزيونية، ولكنّ هذا البعض من مثقفينا، لا يقول في الوقت نفسه إنّ غياب هذا الإجماع يَحُول دون انبثاق الانتفاضة المدنية المقترحة، فما دامت السلطة الفلسطينية ترى أنّ أيّ نضال شعبيّ مدنيّ واسع، (ليس موضعيّا ولا فلكلوريّا)؛ من شأنه إضعافها، أو اتهامها بالإخلال بالتزاماتها، أو توفير الفرصة للاحتلال لتقليص صلاحياتها ومضاعفة تنكيله بالفلسطينيين، أو خدمة فصيل سياسيّ منافس، فلن تكون هناك انتفاضة شعبية مدنية واسعة.
فتعارض الإرادات داخل المجال الفلسطينيّ الواحد على الفعل الكفاحي يعني مواجهة فلسطينية فلسطينية، وهذا ما حصل بالفعل بعد السابع من أكتوبر، فليس صحيحا كما يتوهم بعضهم أن الفلسطينيين في الضفّة لم يهبّوا في مظاهرات شعبيّة عارمة بعد هذا التاريخ، ولكن مظاهراتهم لم تُواجه بحملات الاعتقال الإسرائيلي المكثفة فحسب، ولكن أيضا بالقمع الفلسطيني الداخلي، لدرجة مقتل بعض الفلسطينيين للأسف في سياق ذلك، وبإخراج مظاهرات مقابل مظاهرات، ممّا أحبط تلك الحركة الجماهيرية الفلسطينية في مهدها، بعدما كان من شأنها أن تتعاظم للتحوّل إلى كتلة حرجة قابلة للاستمرار، أصعب على الاحتواء، ومناسبة لإعادة بناء نضاليّ من داخلها. ولذلك على مثقفينا مثلا، مساءلة حركة فتح، عن انعدام فاعليتها النضالية الشعبية، قبل نقد أيّ شكل آخر من المقاومة.
ثانيّا- يقود ذلك إلى السؤال عن المفاضلة بين المقاومة الشعبية والمسلحة في الظرف الفلسطيني الراهن، هل هو محض خيارات؟!
1- اقتراح نموذج الانتفاضة الأولى خيارا ممكنا، هو اقتراح غير ماديّ، أي هو مجرّد مقولة ثقافية متعالية على الواقع، لأنّه لا يأخذ بعين الاعتبار كلّ التحوّلات التي حصلت في الواقع الفلسطيني من بعد تأسيس السلطة الفلسطينية، التي آل مجرّد تأسيسها إلى مصادرة خيارات النضال المدني الفلسطيني، علاوة على كونه أنهى فعليّا أيّ إجماع فلسطينيّ على أيّ شكل نضاليّ فلسطيني!
2- وبقطع النظر عن ضرورة أنّه لا يمكن حشد الجماهير في الضفة الغربية على نضال مدنيّ فلسطيني واسع، دون معالجة موقف السلطة الفلسطينية، فإنّ الإمكانات النضالية المدنية المؤثّرة محدودة، وغير قابلة للاستمرار بسبب فكرة "إعادة الانتشار" العبقرية التي تأسست عليها اتفاقية أوسلو، إذ خلّص الاحتلال نفسه من الانغماس المباشر بين الفلسطينيين، وبات الوصول إليه في نضال مدنيّ خالص؛ عملية صعبة وشاقّة ومستنزفة للفلسطينيين، وهو ما سآتي على توضيحه لاحقا في خواتيم هذه المقالة.
3- ضيق الخيارات الكفاحية للفلسطينيين، بما في ذلك خيار النضال المدني الشعبي غير المسلح، وتحديدا بسبب غياب الإجماع الفلسطيني الناجم عن تأسيس السلطة وتاليا بسبب ذهابها بعيدا في إغلاق أيّ منفذ جدّيّ لمقاومة مدنيّة شعبيّة مؤثّرة، يحوِّل أيّ شكل آخر من المقاومة إلى حتمية ما استطاع إليه فرد فلسطينيّ أو تنظيم فلسطيني سبيلا. فالأمر ليس قضية ثقافية ناجمة عن تعبئة تاريخية تقدّس السلاح، ولا هو دفع حزبي مجرّد من أيّ أبعاد أخرى، بقدر ما أنّ انسداد الخيارات الأخرى، سيدفع للبحث عمّا هو ممكن، دون كثير تفكير في الجدوى والمآلات، لأنّه لا يمكن تصوّر أيّ شعب حيّ، ممتنعا عن مقاومة عدوّه، حتّى جابوتنسكي، الأب الروحي لنتنياهو، لم يكن يتصوّر الشعب الفلسطيني إلا شعبا حيّا سيقاوم مستعمريه بالضرورة، وعلى ذلك البعض من مثقفينا أن يحترموا شعبنا أكثر من جابوتنسكي، فالقضية ليست خيارات محضة تنتظر تعليمات شجاعة من مثقف فلسطيني يقدّس حصافة الرأي ولا يقدّس السلاح!
4- وهنا، وقبل أن ينتقل السلاح هذه الانتقالة الواضحة إلى الضفة، ماذا أنجز مشروع التسوية في سنواته الذهبية الثانية من حيث قدرة السلطة الفلسطينية، والدفعة التي أخذتها إقليميا ودوليّا من بعد الانقسام الفلسطيني (سنوات "إقامة الدولة وبناء المؤسسات")؟! (وقد ناقشنا في مقالات سابقة ماذا أنجزت مقاومة الفلسطينيين وإلى أيّ حال أوصلنا مشروع التسوية)، وإزاء انسداد الخيارات الناجم عن الخيار الوحيد المفروض على الفلسطينيين في الضفة (الهدوء والراتب ولقمة العيش فلسطينيّا لإعطاء الفرصة للمفاوض الفلسطيني، والسلام الاقتصادي مشروع نتنياهو الأثير سابقا) ماذا كان على الفلسطيني أن يفعل وهو يرى التمدد الاستيطاني قد وصل حتى أنفاسه، وحركته باتت مقيدة بالكامل، وتنظيمات المستوطنين التي تستبيح بلدات الفلسطينيين بالحرق والقتل والإتلاف والإفساد؛ تنذر بنكبة ثانية تشبه النكبة التي صنعتها العصابات الصهيونية عام 1948؟ هذا وهجمات مليشيات المستوطنين على بلدات الفلسطينيين وحرق أفرادهم وعائلاتهم علاوة على ممتلكاتهم بدأت منذ بضع سنوات لا مع السابع من أكتوبر!
ثالثا- هذه الإشارة إلى مليشيات المستوطنين، التي يفترض أنّ أفعالها معلومة وظاهرة لمثقفينا، وذلك دون الإطالة في التذكير بالقمع الأمني والعسكري الإسرائيلي في الضفة الغربية، تدفعنا للتساؤل بالفعل، إن كان العنف الاستعماري الصهيوني شديد البطش مرتبطا عضويّا بفرصة قد يتيحها له الفلسطيني، وذلك دون التذكير بسياسات التطهير العرقي التي نشأ عليها الكيان الصهيوني، إلا إذا كان على مثقفينا تحميل شعبنا المسؤولية جزئيّا عن نكبته، ومن ثمّ سوف نكتفي بالمعطيات الراهنة:
1- إنّ أيّ مقاومة مدنية شعبية غير مسلحة، لن تصادر، في إطار المعطيات القائمة، من الاحتلال أدوات العنف الباطش ولو نسبيّا، ولا معنى هنا لاستعادة نموذج الانتفاضة الأولى، ليس فقط لأنّ عنف الاحتلال فيها كان شديد البطش في حدود ذلك الظرف الزمني، وهو ما يعلمه من عاش سنوات الترويع في تلك الانتفاضة، فالقضية ليست أعداد قتلى فحسب، ولكن لِمَا سبق التعريف به من تحوّلات ناجمة عن تأسيس سلطة فلسطينية في ظلّ الاحتلال.
2- وهو الأمر الذي بدا واضحا مع انتفاضة الأقصى في مرحلتها "المدنية الشعبية" قبل أن تتحوّل إلى انتفاضة مسلّحة، فبحسب معلومات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، بلغ عدد الشهداء الفلسطينيين فقط من 29 أيلول/ سبتمبر وحتى 31 كانون الأول/ ديسمبر 2000؛ 333 شهيدا فلسطينيّا، وهو ما يعني في المعدّل 111 شهيدا في الشهر الواحد، وبلغ عدد الجرحى الفلسطينيين في تلك الشهور الثلاثة بحسب إحصائيات المركز نفسه 10603 فلسطينيين، منهم 2168 بالرصاص الحيّ، و4067 بالرصاص المعدني المغلّف بالمطاط.
ومن نافلة القول إنّ هذه الأعداد أكثرها، إن لم يكن كلها، كانت من المدنيين المتظاهرين صوب الحواجز الإسرائيلية التي تغلق مداخل المدن الفلسطينية. وبالمقارنة مع الانتفاضة الأولى فإنّ عدد الشهداء الفلسطينيين في هذه الشهور الثلاثة، قبل عسكرة الانتفاضة، أعلى منه في أيّ من سنوات الانتفاضة الأولى. فبحسب إحصائيات منظمة "بتسيلم" الإسرائيلية، بلغ عدد الشهداء الفلسطينيين في الانتفاضة الأولى في سنة 1988؛ 289 شهيدا، وفي العام 1989؛ 285 شهيدا، وفي العام 1990؛ 125 شهيدا، وفي العام 1991؛ 91 شهيدا. وهذا يعني كذلك أنّ أعداد الشهداء في الشهر الواحد من شهور الانتفاضة الثانية (قبل عسكرتها) أعلى منه في بعض سنوات الانتفاضة الأولى كاملة. ونحن في غنى بعد هذه الإحصائيات عن الاستناد كذلك لإحصائيات مسيرات العودة في غزة ومقارنتها بالانتفاضة الأولى، وحتى عن استدعاء أعداد الشهداء المرتفعة في سنوات هدوء الضفة من بعد الانقسام!
3- فالواضح، أنّ العنف الاستعماري الإسرائيلي زاد بعد تأسيس السلطة الفلسطينية، في مراجعة إسرائيلية عملية لاتفاقية أوسلو، منذ العمّالي اليساري إيهود باراك، وقبل عودة نتنياهو وصعود سموتريتش وبن غفير، فإنّ التعريف الإسرائيلي للسلطة الفلسطينية استند إلى كونها ذات صلاحيات مفوّضة إليها من قائد المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال، الذي هو الحاكم العسكري للضفة، وإنّ أيّ إخلال بهذه الصلاحيات يعني استعادة الاحتلال لها أو التعامل مع "جغرافيا السلطة" بوصفها منطقة معادية، وهذا كاف لفهم الفرق بين الانتفاضة الأولى حينما لم يكن الحكم العسكري الإسرائيلي قد فوّض بعض صلاحياته للسلطة الفلسطينية، وبين ما تلا تأسيس السلطة، وكذلك الفرق بين هبّات الفلسطينيين في القدس وأحداث الشيخ جراح فيها، حيث لا وجود لأيّ سلطة فلسطينية وبين الضفّة الغربية وقطاع غزة.
4- يُضاف إلى ذلك بدراسة الشهور الثلاثة الأولى (المدنية الشعبية) من الانتفاضة الثانية، أنّ الزحف اليومي إلى حواجز الاحتلال والذي أدّى إلى ارتقاء عديد الشهداء يوميّا علاوة على مئات الجرحى، هو عملية استنزاف مستمرّة للفلسطينيين وغير قابلة للاستمرار، ممّا حتّم عليهم إمّا الانكفاء مكسورين، وإمّا عسكرة تلك الانتفاضة، والذي عايش مظاهرات تلك الانتفاضة (المدنية الشعبية السلمية) يعلم أنّ التحوّل الذي جرى فيها نحو السلاح كان مطلبا شعبيّا، بل إنّ حركة كحماس، اتُّهِمت من خصومها السياسيين بأنّها تأخّرت في اللحاق العسكري واستئناف عملياتها الفدائية في تلك الانتفاضة، وهذا بقطع النظر عن وجاهة هذا الاتهام!
5- من نافلة القول إنّ ارتفاع مستوى العنف الإسرائيلي في قتل المدنيين الفلسطينيين، في الشهور الثلاثة الأولى من الانتفاضة الثانية، سبق عمليات 11 أيلول/ سبتمبر، ومن ثمّة لا فرصة للقول إنّ تلك العمليات وفّرت فرصة لباراك لاستباحة الفلسطينيين على وقع الغضب الأمريكي، وإذا كنّا لا ننكر أنّ الإسرائيلي سوف يسعى لتحويل أيّ شيء إلى فرصة، فإنّ الأمر ليس محصورا في المقاومة المسلحة، ولا هو مرتبط عضويّا بفعل الضحية، وهو ما يمكن مناقشته في مرّات قادمة.
وإذن، فإنّ العنف الإسرائيلي هو جزء من ماهية الكيان الإسرائيلي، ومعبّر عن الموقف النفسي العميق للإسرائيلي تجاه الفلسطيني، ولم تكن السابع من أكتوبر إلا كاشفة عن ذلك، وفي حين أنّه لا أحد يمنع نقد الخيارات الكفاحية الفلسطينية، ولا السعي إلى نضال فلسطيني يكون فيه الفلسطينيون أكثر قدرة على تحمّل أثمانه، فإنّ ذلك ينبغي أن يكون على قاعدة موضوعية تأخذ الوقائع والمعطيات بعين الاعتبار، إذ لا يمكن اقتراح أيّ بديل دون النظر في توفّر شروطه الموضوعية والبحث في أسباب استعصائه، ولا يمكن نقد أيّ بديل دون ملاحظة الأسباب الحتمية الدافعة له، والاكتفاء بمثل هذا النقد القاصر يعني دعوة بلسان الحال للفلسطينيين إلى الاستكانة والانكسار، أو إلى رفع اليافطات في مراكز المدن حيث لا الإسرائيلي يكترث بذلك، ولا الفلسطيني يقتنع بجدواه أو يراه مناسبا لدوره، حتى لو رأى بعض مثقفينا خلاف ذلك!
المصدر، عربي 21