حصاد اليوم الثاني
ليس طبيعياً أن تنام بعد منتصف الليل على أصوات الهيلكوبتر وهي تطلق الرصاص من الجو، وقوات الأمن تطلق من الأرض، وتستيقظ فجراً على أصوات التكبير والاستغاثة من مآذن المساجد. أيامٌ ليست كالأيام، وليالٍ ليست كالليالي، لكن البحرين مرّت بأمثالها من قبل، ففي كلّ عقدٍ تكون للبحرين واعية. شعبٌ ما فتئ يقدّم القرابين على مذبح الحرية طلباً ليومٍ مشرقٍ جميل. عند السادسة صباحاً أمس (الأربعاء)، بدأت عملية اقتحام دوار اللؤلؤة. كانت خطوةً متوقعةً على كل حال. الحياة مشلولة. الشوارع مغلقة. أكثر المناطق محاصرة وقطعت عنها الاتصالات عدة ساعات. المعلومات شحيحة، وخدمة الانترنت تم تبطئتها. حاولت منذ الصباح الدخول على حسابي الشخصي دون جدوى. كنت أعتمد يومياً على الأخبار الخاصة بالصحيفة لتدوين هذه اليوميات، أما اليوم فعليَّ أن أعتمد على الاتصال الشخصي بالزملاء والمراسلين، أو ما تبثه الفضائيات. لقد أصبحنا نستقي معلوماتنا عن بلدنا من الخارج... كما يحدث في الحروب. الخبر البحريني أصبح يتقدّم نشرات الأخبار في كافة الفضائيات وقنوات التلفزة العالمية، وينافس خبر الزلزال المدمّر في اليابان. مؤسفٌ أن لا يصدر عن بلدك منذ أسابيع إلا أخبار القتل والاقتحامات، وصور سيارات الإسعاف وأعمدة الدخان. من أخبار أمس، مجموعةٌ أخرى من أعضاء مجلس الشورى قدّمت استقالتها. وهناك وزيرٌ انسحب من الحكومة احتجاجاً على ما يجري. مستشار مجلس القضاء الشرعي، الشيخ أحمد بن خلف آل عصفور، أصدر بياناً مصاغاً صياغةً سياسيةً راقية، ندّد فيه بـ "انتهاك الحرمات وتزايد وتيرة العنف ضد شعبنا الأعزل، وقتل النفس المحرمة، والتحريض والشحن الطائفي من وسائل الإعلام الرسمية دون رادع"، وختمه بإعلان استقالته من منصبه. وكعميدٍ للأسرة، دعا جميع آل عصفور للاستقالة من مناصبهم. أسرةٌ عريقةٌ، لها كثير من الاحترام والاعتبار لدى الحكم، حملتها المأساة المروّعة إلى كسر حاجز الصمت. أثنا عشر قاضياً من قضاة المحاكم الشرعية، أعلنوا استقالتهم أيضاً، "نظراً للأوضاع المأساوية وما نتج عنها من أحداثٍ داميةٍ نتيجة استعمال القوة المفرطة والسلاح في مواجهة المواطنين العزل". أكثر هؤلاء من أسرٍ محافظةٍ في مواقفها السياسية، ولكن ما جرى كان فوق الاحتمال. إننا أمام "انتفاضة ضمير"، فهناك استقالاتٌ أخرى أيضاً في المجلس الإسلامي (المشترك)، ويبدو أننا مقبلون على بلدٍ ذي لونٍ تمثيلي واحد، في ردّةٍ واضحةٍ على الثوابت الوطنية التي تم إرساؤها منذ بداية الاستقلال. لقد بلغت سياسة التشطير مداها ووصلت السكين إلى العظم. في اليوم الثاني، ومع امتصاص الصدمة الأولى، بدأت تظهر ردود الفعل الخارجية. كان أبلغها ما صرّح به رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، الذي قرأ بفراسته التاريخية الخطر منذ اللحظة الأولى. رجلٌ مسلّحٌ بثقافة إسلامية حقيقية، وحكمةٍ وبعد نظر. ذكّر أردوغان بخطأ فكرة التدخلات العسكرية، فالمنطقة لا تحتاج إلى كربلاء أخرى، وما أغناها عن ارتكاب تلك الأخطاء التاريخية التي لا تنسى. الجامعة العربية التي تلتزم الصمت في أغلب الأحداث، هزّها الحدث البحريني فطالب أمينها العام عمرو موسى الأمم المتحدة بالتدخل. وفي الكويت التي لُدغت من تدخّل جارها قبل عشرين عاماً، رفض بعض نوابها التدخل بأي حجةٍ كانت. وفي بيروت تداعت القوى الوطنية والإسلامية إلى اعتصام تضامني أمام مبنى "الأسكوا"، فهم لم ينسوا مواقف هذا الشعب الشهم الكريم معهم في مختلف حروبهم مع "إسرائيل"، وآخرها حرب تموز. العراقيون نظّموا مظاهراتٍ في عدة مدن، في مقدمتها بغداد وكربلاء والنجف الأشرف، ودعت المرجعية الدينية إلى الكفّ عن ظلم المواطنين العزل. العراقيون لم ينسوا للبحرينيين نضجهم السياسي ومواقفهم النبيلة وتعاطفهم منذ أيام الطاغية حتى أيام الاحتلال. كانوا أول من أخرج مظاهراتٍ ضد صدام، وأول من تظاهر ضد الاحتلال. أكثر الشعوب العربية معرفةً وتواصلاً وقرباً من العراقيين، يبادلونه حبّاً بحب. على أن تفاعلاً كبيراً يأتي من مصر الجديدة، عربية الهوى، نقية الثوب، فبالإضافة إلى الموقف الرسمي المتفهم للحركة الشبابية، هناك تعاطفٌ كبيرٌ من الناشطين والحقوقيين. إحدى الناشطات قالت: "أستغرب كأمٍّ أن أشاهد هذه المناظر، حيث يقتل الأخ أخاه". وقال أحد الحقوقيين إن الحدث البحريني "عرّى ضمير العالم، وعلينا أن ننحاز إلى ضمائرنا، فنحن نريد الحرية لكل بني الإنسان". أما الحقوقي العربي المعروف هيثم مناع فقال: "باسم الخوف من التغيير ترتكب هذه الأيام مجازر وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان". في الساعة الرابعة عصراً، دخل حيّز حظر التجول رسمياً، لكن لم تنقطع الحركة في الشارع، فهذا أول حظر تجوّل يعيشه 80 في المئة من شعب البحرين. حصل ذلك أيام الانجليز، ويحصل الآن لأول مرةٍ في عهد الاستقلال. عند الرابعة والنصف، كانت الحركة مستمرةً في الشارع، ما شجّعنا على الخروج للتزوّد ببعض الحاجيات من برّادة قريبة. كنت أفكّر كثيراً في الأسر الفقيرة جداً، كيف تُدبّر أمورها. نساء ورجال تبضعن سريعاً، شابٌ لم يحصل على علبة السجائر التي يدخنها، فقلت له مازحاً: "هذه فرصتك للإقلاع عن التدخين! ألا تكفيك رائحة مسيلات الدموع"؟ كانت منطقتنا السكنية تعرّضت لإطلاق مسيلات الدموع أربع مرات منذ الصباح، وبعد المغرب مرتين. ذلك يكفي وزيادة! زميلتنا ندى الوادي تعرّضت منطقتها السكنية إلى هجمات مشابهة، وفوق ذلك إلى تكسير زجاج السيارات، وفوقها إخراج الهواء من الإطارات بالكامل. وتمكّنتْ من جمع 11 عبوة سقطت في منزلها، للاحتفاظ بها ذكرى. يومٌ بحريني طويل، تعرّض فيه بعض الأطباء للضرب، وأجبرت الطبيبة الشابة حنين (ابنة الزميل البوسطة) على الزحف على الأرض. حوصر المستشفى المركزي (السلمانية) ومستشفيات خاصة أخرى، واستقال وزير الصحة الجديد احتجاجاً على كل هذا الهياج، بعد أسبوعٍ من تعيينه. وآخر الأخبار... هيلاري كلينتون تقول: "أوضحنا لشركائنا الذين أرسل أربعةٌ منهم قوات، أنهم يتبعون مساراً خاطئاً". حفظ الله البحرين وشعبها وأقال عثرتها .
قاسم حسين
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 3114 - الخميس 17 مارس 2011م الموافق 12 ربيع الثاني 1432هـ