نقائض الفكرة ومنطق التعاطي مع الاختلاف الفكري
تابعت باهتمام من فترة سجالا حواريا بين باحثين حول مسألة الليبرالية في الوطن العربي، ومدى اغترابها وعروبتها عن الواقع نفسه لرؤى متعددة ناقشها الكاتبان، كلٌ وفق رؤيته واعتقاده في هذه القضية الشائكة إن صح تعبيرنا هذا الوصف.
ملخص ما قاله أحدهم.. إن على الليبرالية العربية ـ إذا جازت التسمية ـ إذا ما أرادت أن تكون مقبولة بدون انسدادات أو تعثرات داخلية، أن تستمد مشروعيتها من الواقع العربي نفسه، وتنطلق من أرضية فكرية وتنظيرية راسخة ضمن معطيات لصيقة بمضامين الأمة وهويتها ومرجعيتها" وعندما يصدر هذا المشروع عن تأصيل ثقافي ذاتي في جوهره، وحتى لو أغنى نفسه باقتباسات خارجية، فإنه يحظى بالاعتراف المحلي الذي هو شرط لنجاحه".
وما كتبه هذا الباحث في اعتقادي كان متوازنا ومتحررا من العاطفة الرغبوية للفكرة المطروحة فهو من جانب لم ينقد فكرة الليبرالية كمشروع إيجابي للمنطقة العربية، لكنه دعا إلى فك ارتباطها مع الغرب حتى يمكن تعاطيها بنجاح مع الواقع العربي، لكن صاحبنا لم يعجبه الطرح الآخر، وانتقد بشدة اتهام الليبرالية بأنها مرتبطة مع الغرب أو متساوقة معه!
ومما قاله الباحث الآخر في هذا السجال انتقادًا لفكرة " استيراد " الليبرالية من الغرب إن " النظر إلى الأفكار باعتبارها سلعًا تستورد يجعل لكل فكرة امتدادًا في الخارج وبالتالي يصبح الاستيراد قاسمًا مشتركًا بين الجميع. أكثر من ذلك يجوز القول إن نسبة المكون الأجنبي في الفكر القومي العربي، ما دمنا في مجال تسليع الأفكار، تفوق نسبته في أي فكر عربي آخر. فللماركسية أساس في تراثنا هو العدل، ولليبرالية سند في هذا التراث أيضًا هو الحرية. لكن الفكر القومي العربي بني بكامله على فكرة غربية المنشأ لا وجود لها في تراثنا وهو الدولة القومية."
ولا أدري كيف استساغ الباحث الأخير لنفسه تجميع هذه الأفكار والأيديولوجيا التي تتنافر في قضايا كثيرة وجعلها مترادفة لبعضها البعض لمجرد أنه يدافع عن مشروعية الليبرالية وتسكينها محليا.
الأغرب ما قرأته أن كاتبنا الكريم نفى كليةً أن تكون لفكرة القومية العربية إسناد في الواقع العربي كمضمون تاريخي، لكنه ـ بحمد الله وتوفيقه ـ وجد للماركسية سند في التراث العربي، وهو العدل، ولليبرالية أيضاً سندٌ في التراث العربي وهي فكرة الحرية! وبقيت فكرة القومية العربية هي (اللقيطة) من بين هذه الأفكار والانتماءات الإنسانية.. ( هكذا)
فليس صحيحا القول إن الفكر القومي العربي ليس له أية جذور في التراث العربي وأنه مجرد فكرة غربية المنشأ بكاملها الخ.
فالفكرة القومية كمصطلح لها سند متأصل في التراث العربي فعبارة " قومية " مستمدة من " قوم"، وفي هذا الصدد يقول المفكر الإسلامي د/ محمد عمارة " إن " القوم" ..الذي اشتقت منه " القومية " ـ هو مصطلح " عربي ـ قرآني "، وفي القرآن الكريم حديث عن العرب، قوم الرسول (ص) " وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون". فقوم الإنسان هم الدائمو الإقامة معه، والذين تربطهم به الروابط التي اصطلح على تسميتها " سمات القومية"، وهي التي تحدد اللغة دائرتها وخريطتها..فالقومية، في الرؤية الإسلامية، هي الدائرة اللغوية في إطار الانتماء الإسلامي الأكبر.. وعالمية الإسلام لا بد وأن تشمل أقوامًا تميزهم اللغات والألسنة " ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم، إن في ذلك لآيات للعالمين" ..فإذا كان اختلاف اللغات سنة وآية من سنن الله وآياته، فلا بد وأن تشمل عالمية الإسلام أقوامًا وقوميات تتمايز لغويًا ـ أي قوميًا ـ في إطار محيط ودائرة الانتماء الإسلامي الأول ..".
أيضا أحد المفكرين الليبراليين البارزين وهو مصطفى الفقي يرى أن " الفكر القومي العربي، يختلط تاريخيًا بتاريخ الإسلام في المنطقة، ويحتدم الجدل دائمًا: هل العروبة هي التي حملت الإسلام إلى الشعوب التي قبلته، والأمم التي آمنت به؟ أم أن الإسلام هو الذي أعطى هذا المجتمع الجاهلي في شبه الجزيرة العربية، قدرة الانطلاق نحو آفاق الفتوحات الإسلامية ونشر الدعوة ؟ ".
وهناك الكثير من الآراء والمؤيدات التي تدحض عدم صوابية أن فكرة القومية العربية مبتورة الجذور بواقعها العربي.
صحيح أن العديد من المفكرين والباحثين العرب تأثروا بالفكرة القومية الأوروبية. وحاولوا استنبات هذه الفكرة، لكنها لم تلق النجاح المأمول. والوقائع والممارسات عبر العقود الماضية تبرز خلل هذا الاستنبات غير الراسخ في الوجدان العربي وما تبعه من استبداد وقمع من الكثير من الأنظمة. لكن الخلل لا ينفي الحقائق التاريخية والوجدانية التي تجعل من فكرة القومية لصيقة بالشعوب العربية وغيرها.
أما قوله" إن الليبرالية لها سند من التراث العربي" فإن هذا القول أشبه بمقولة كلمة حق يراد بها باطل.. فإذا كانت الحرية في المفهوم الديني الإسلامي راسخة الجذور في مصادرنا.. فلماذا هذا الالتفاف والدوران حولها والقفز إلى الليبرالية وهي فكرة غربية لمشكلة غربية، ويعرف هذا الكاتب وهو الباحث المرموق في هذا الجانب أن الليبرالية مذهب رأسمالي ينادي بالحرية المطلقة في الميدانين الاقتصادي والسياسي، لكن هذا المذهب اقترن ـ كما هو معروف بالثورة الصناعية، وظهور الطبقة الجديدة، مع القوى التقليدية في أوروبا، وهناك الليبرالية المطلقة (المتوحشة) وهناك الليبرالية المنظمة وهناك الليبرالية الجديدة، وكل هذه الليبراليات لها أفكارها التي ربما تناقض مع غيرها. والذي أقصده أن الليبرالية ليست فكرة ثابتة الأهداف والمقاصد، فأحيانا تكون وديعة ومعقولة وأحيانا تكون متوحشة ـ وهذه الأخيرة ـ لم تأت إلا بعد ثورات ومشكلات كبيرة في الغرب.
نحن نتفق معه أن الليبرالية ـ إذا ما هذبت بالدساتير والأنظمة الاجتماعية وسياج الديمقراطية ـ يمكن اعتبارها من الأيديولوجيات الناجحة والمقبولة في عالم اليوم ..
لكننا نرى أنه ما دامت فكرة الحرية راسخة الجذور في تاريخنا العربي الإسلامي، فلماذا لا نطور فكرتها، ونبحث في مضامينها بالتأصيل والبحث والتنقيب لنجعل فكرة الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان نابعة من الداخل وليس الخارج، ويمكن بالتالي الارتكاز إلى مضامين ومعطيات ـ كما قلنا ـ من داخلها.. فلماذا الذهاب إلى الليبرالية إذن؟ .
أما ما قاله إن الماركسية لها سند من التراث العربي وهو العدل، فإن هذا القول لا نحتاج كثيرًا إلى تفنيده، لأن المقاربة في هذه القضية صارخة إلى حد التنافر والتقاطع.. فماذا يجمع الفكر الإسلامي والفكر الماركسي في مضامين العدل، ـ وهي فكرة إنسانية قديمة قدم الإنسان؟.
ومن قال إن الماركسية هي أول من نادى بالعدل والمساواة في هذا العصر، ففكرة العدل وجدت مع الأديان السماوية والوضعية منذ أقدم العصور.. ولذلك فإن اختزال قضية العدل في الماركسية كما قال هذا الباحث محاولة غريبة لإخفاء حقائق التاريخ وسيرة الأفكار والأيديولوجيات.
بل إن هناك الكثير من الدعوات الاشتراكية سبقت الماركسية نادت بالعدل والمساواة قبل قرون قليلة، وكان من العدل أن تعطى كمثال وليس الماركسية.
الالتفاف على الحقائق وتطويعها أيديولوجيا قضية منهجية تحتاج الى مراجعة واستقصاء وأولها الابتعاد عن الأحكام المسبقة والآراء الضعيفة.
عبد الله بن علي العليان
كاتب وباحث عماني