أوان الوقت
الكتابة المحلِّقة.. أيضاً «2»
باسمة القصاب
باسمة القصاب
«أنت لا تريد الوصول الذي يعني لك إما إنجازاً وهمياً أو نهاية. تريد أن تواصل المسير. تتوقف كلما تعبت، وتنظر إلى واحات خضر مررت بها. وواحات تراها في أفق الطريق».
هكذا يقرأ رشاد أبوداود جانباً من تجربته في الكتابة الصحافية. تلك التي ضمَّن جزءاً منها كتابه الصادر حديثاً «لكم أنتِ بي». الكتابة كما يفهمها أبوداود، هي رؤية يحملها، وأفق يقصد إليه، وفي المسافة بين الرؤية والأفق، ينشر جناحاً من قلق. إنه قلق الإنجاز، لا قلق الوصول. فالكتابة لا تعني بالنسبة إلى أبوداود الوصول، بقدر ما تعني الإمعان في سير المتفرِّد. لهذا تراه يسير مستعذباً ورطة الكتابة، منشغفاً بأخذها المحموم والحميم، حتى لكأنه ما عاد يعرف نفسه إلا محلِّقاً داخل كتابة. أما الوصول الذي يتعنَّى له الآخرون، فليس بالنسبة إليه سوى مجاز آخر، لا إنجاز آخر.
«البابور»
أكثر من تسعين عموداً صحافياً نكهتها الوطن، اختارها أبوداود من فيض رحلته الطويلة مع الصحافة العربية منذ 76 في كل من «الخليج» و«البيان» الإماراتيتين و«المجلة» السعودية و«الدستور» الأردنية، وأخيراً «الوقت» البحرينية. ينسكب حبر أبوداود بجرح فلسطين المتصدِّع أبداً حد النسيان، أو لنعترف: حد الإهمال. يمتلئ حبره بالحلم بالوهم بالذاكرة بالتاريخ بالعروبة بالقومية بالحرب بالسلم بالذل بالعار بالاستسلام بالظلم بالظلام بالاستكبار بالخيبة بالخسارة بالنكسات والنكبات. يفيض بـ «بابور» كاز أمه، بصباحات فيروز، بالخبز اليابس والشاي، بقميص الطفولة المهترئ، بالدرس، بالنشيد، بالغربة، بالوحشة، بالوحدة، بالغياب والحضور. بكل ذلك يبوح أُفق أبوداود المحلِّق. بكل هذا الأفق ينشر جناحيه، ثم يضم جسده، فإذا به سماء من كلمات، سماء من معان، سماء من أفق الإنسان.
يرى البعض أن الكتابة الصحافية، الأعمدة منها على وجه الخصوص، مرتبطة بالآني واليومي والسريع، وعمرها الافتراضي محدود، لذا هي غير مناسبة لتجمع وتنشر ضمن كتاب. هو فعلاً كذلك بالنسبة إلى الكتابة التي يَشغَلها الحدث، لا تلك التي يشغلها الأفق. الكتابة المحلِّقة قادرة على جعل الآني واليومي عمراً مفتوحاً. الأحداث تنتهي وتُنسى وتموت وتَخمد، أما الأفق فيبقى محلِّقاً. الاحتفاء بمثل هذه الكتابة، هو احتفاء بمثل هذا الأفق الذي يبقى حاضراً فينا، حين ننسى كل شيء..
«البوح»
لا يغادر أبوداود ببوحه الكثيف لطافة الإنسان لحظة. فالإنسان هو رهانه الأكيد، والوحيد. «أنت المسالم، لم تساوم على الإنسان، مهما تشوه بالجماليات المصطنعة في عالم اليوم» [2]. الإنسان هو محِلَّة كتابة أبوداود. هو محطته الأرفع عند كل بوح. يبوح أبوداود إلى إنسانه عن إنسانه. يشكوه منه إليه. يهرب عنه إليه. يستأنس عنده باستيحاشه منه. يكتب أبوداود أعمدته الصحافية. بنكهة كل ما هو به. يحلِّق. فيأخذك معه على جناح الخيال، حتى لترى نفسك أنت هو، أو تراه هو موزع فيك وفي كل العالم. ومن سماء ذلك الخيال، لا تعود ترى الأشياء إلا على نحو نكهة ما يأخذك إليه. على نحو نكهة الإنسان. الإنسان فقط. هناك تتماهى كغيمة تتزود بالماء. تسيل في ماء اللغة. تمتلئ بكثافة الحرف والمعنى. فيما هو يعود الأرض، ليستعد لتحليق جديد، تاركاً إياك معلقاً في غيمته المثقلة، إلى حين يتخففك بعض المطر.
سأسميها نصوصاً صحافية، لا أعمدة صحافية، تلك يكتبها أبوداود. فهي كتابة، على غير مألوف الصحافة اليوم، مهتمة أن تنسج بوحها بحرفنة مسبوكة، وباشتغال قلق، وبلغة متينة، وبتواضع رصين. أقول على غير مألوف الصحافة اليوم؛ لأن الكتابة المتواضعة قد غزت الصحافة اليوم، بثقة غير متواضعة، ولأن لغة الكتابة الصحافية صارت لغة مفتقدة للماء، ذلك الذي ينزل على كل شيء جامد أو مائت، فيهزه ويربيه ويحركه ويبعث فيه الحياة. ربما هذا ما عناه قاسم حداد حين وصف نصوص أبوداود بـ «البوح الأدبي في تجاعيد الممارسة الصحافية» [3].
«الجرح»
عندما أعود بين حين وآخر إلى بعض الصحافة البحرينية الأولى، كـ «صوت البحرين» الصادرة في الخمسينات، أُفاجأ بالذائقة اللغوية لدى كتّابها. الكتابة الصحافية كانت في أوج حداثتها العمرية، كانت لغة طرية رقراقة. كانت ذائقة نخبوية. وكان الشارع القارئ نخبوياً. النخبة التي أعنيها هنا ليست شيئاً مقابلاً للجمهور، بل شيئاً مقابلاً للسطحية، مقابلاً للكتابة المفتقدة لسيولة الماء وحركته، الكتابة المفتقدة للغوص في جوهر الأشياء وعمقها. تستطيع عبر نظرة متفحصة لبعض أعداد هذه الصحيفة أن ترى كيف كانت الكتابة الصحافية، تلاقحاً فكرياً بين شارع نخبوي وكاتب نخبوي. كانت الصحافة في أوج حداثتها (المحلية) تهيئ لذائقة شارع نخبوي حداثي. لكننا اليوم أمام شارع (فقد كثيراً من نخبويته الخمسينية)، راح يصنع ذائقة صحافية (فقدت كثيراً من نخبويتها الباكورية)، فراحا يمارسان بسيطتهما حد التجعد.
بهذه الذائقة التي يصنفها البعض «أدبية»، ويصنفها البعض «نخبوية»، ويحلو لي أن أصنفها «إنسانية»، راح أبوداود يجترح كل من ذاته (طفولته، صباه، شبابه، ذكرياته، آماله، وأحلامه)، ووطنه الصغير (بيته، أسرته، بلده الممنوع، أرضه المسلوبة، تاريخه المائت)، ووطنه الكبير (كل العالم)، بالجرح ذاته. منشغل أبوداود دوماً بفتح داخله (ذاته) على خارجه (العالم). فالكتابة كما يقول كافكا هي «انفتاح جرح ما». والكلمة كما يلفتنا ابن عربي مشتقة من الكلم وهو الجرح. وجرحك يفتح ما تحت جلدك على ما فوق جلدك. يفتح ذاتك على آخريك. يفتح جرحك على جرح الوجود. وعبر هذه الاجتراحات، يحلق أبوداود في داخله، يعيد قراءة ذاته المرة بعد المرة، كلما جد جديد، وكلما استبد عتيق، حيث «الحقيقة تعيش في الـــداخــل وتعشعش فيه» كمـا قــال لي ذات مرة.
«الإبريق»
كلما راحت الكتابة الصحافية تنأى بأفقها عن مسّ الذات، وتمعن في محاربة الذوات الأخرى ومخانقتها ومرافستها والتصادم معها، راح أبوداود يجترح ذاته بكل الآخر الذي فيه، لايزال يحاور إنسانه الذي في داخله، لايزال يخاطب أناه ويشاكلها ويسائلها ويخاصمها ويصالحها ويصطدم بها وينصحها ويذكِّرها. وفيما هو يجترح ذاته، فإنه يجترح كل الآخرين الذين يسكنونه، أو يشبهونه، أو يخالفونه، أو يعبرون من خلاله.
وكلما مضت الكتابة الصحافية في شخصنتها وطأفنتها وأدلجتها وتحزبها وتمصلحها وتعاليها وتطوسها (أي صارت كتابة طاووسية)[4]، مضت كتابة أبوداود عيناً «صقورية» أفقها الإنسان، تصر على محاكاة روحه التي فينا جميعاً، تصر على استنهاض ما هلك منه وسط صراعاتنا وتنافساتنا واستقواءاتنا ومصالحنا ووجاهاتنا وواجهاتنا. تلك الواجهات غير الوجيهة، التي أفرزت منا كائنات أخرى، لم نعد نعرفها. حتى صرنا لا نميزنا عن غيرنا من الكائنات الأخرى، التي طالما استنقصناها وتعالينا عليها.
وكلما تعنَّفت الكتابة الصحافية وتأججت لغتها وتعالت واشتعلت وتشعللت وفقدت اتزانها وهدوءها وعمقها ورصانتها ووقارها وثقلها، أصرت كتابة أبوداود، بكل ما في مصابات الأرض من استفزازات ولا مفازات، أن تتمسك بقمة وقارها حتى وهي في قمة غضبها. تفعل ذلك من دون أن تزايد على حروق الإنسان حرقاً آخر يمحو إنسانيته. إذ يكفيه (الإنسان) ما اعتاد عليه من الجلوس على اللهب مجبراً كإبريق الشاي. ها أبوداود يهدهد صباح إنسانه: «نصحو على صوت بابور الكاز، يمارس سخونته بخشونة رجولية على إبريق الشاي. الإبريق المسكين اعتاد الجلوس على اللهب مجبراً. كمثل كثيرين أدمنوا الحياة مع نار الظلم والتجبر من أجل لقمة العيش» [5]. وها هو يبقى يمارس كتابته بطقوسية اللهب، وبعنفوان الإبريق المختض بقوة بخار يُحلِّق نحو غيمة.
[1]،[2]،[3]،[5] رشاد أبوداود، «لكم أنت بي: نكهة وطن»، المؤسسة العربية للطباعة والنشر، ,2008 ص 58/58/ 7/ 73 بالترتيب.
[4] راجع: «الكتابة الصحافية المحلقة»، الوقت، العدد .946 الثلثاء. 23 سبتمبر/ أيلول .2008