برلمان من دون ديمقراطية
ماذا يجري في مصر، وكيف يمكن التعامل مع أزمة الثقة بين السلطة والشارع؟ فهل ما يحصل مجرد عاصفة خريف يمكن لها أن تتلاشى عن المشهد وتعود الأمور بعدها إلى الاستقرار؟ وهل الأزمة يمكن اختصارها بضعف الديمقراطية أو خلل أخذ يضرب بنية ديمقراطية ناقصة لم تكتشف حتى الآن هويتها الخاصة وآلياتها المستقلة أم أن المأزق أكبر من هذا الإطار الانتخابي؟
الأجوبة كثيرة، وهي تبدأ بمعضلة «الديمقراطية» في الشرق الأوسط وعدم توافر الشروط البنيوية التي تضمن نجاحها ونموها السلمي، وتنتهي بمأزق الدولة وعدم نهوض سلطة قادرة على ضبط التطور الديموغرافي (السكاني) وما يفرضه من متطلبات تتجاوز حدود اللعبة الانتخابية.
بين ضعف الديمقراطية ومأزق الدولة تبدو مصر ذاهبة الآن إلى برلمان على صورة السلطة وخارج مرآة المجتمع وما يمثله من أطياف سياسية. وهذا النوع من المشهد الذي يتمظهر في برلمان من دون ديمقراطية يعطي عينة مصغرة عن مأزق سياسي أخذ يحفر الخنادق في سياق تدهور الثقة والصيغة التعاقدية بين الدولة والمجتمع.
مشهد برلمان من دون ديمقراطية يؤكد من جانب مدى هشاشة العملية السياسية في المنطقة العربية (ومصر أيضاً) وعدم القدرة على التطور الذاتي للوصول إلى محطة الإقرار المبدئي بمسألة تداول السلطة، ويؤكد من جانب مدى ضعف العلاقة بين الصورة (البرلمان) والمادة (الديمقراطية).
في أوروبا الغربية والولايات المتحدة هناك علاقة تزاوج بين الصورة والمادة. فالبرلمان هو نتاج الديمقراطية ولا يمكن تصور وجود الشكل (الصورة) من دون وجود مادة (مجتمع) تتوالد من داخلها القوى التي تعبر عن التطور السياسي الذي وصلت إليه الدولة في هذه المرحلة التاريخية من نموها وتقدمها. بينما في العالم العربي تبدو الصورة (البرلمان) منفصلة عن المادة (الديمقراطية) إذ يتم إنتاجها خارج سياق التطور السياسي وما يعكسه من انفعالات وتطلعات.
هذا الفارق بين برلمان ديمقراطي وبرلمان من دون ديمقراطية يؤشر إلى ذلك التوافق بين الصورة والمادة في أوروبا والافتراق بينهما في مصر والعالم العربي. فالمشهد الأول يعكس ذلك النمط التقليدي للتطور السياسي لأن الصورة (البرلمان) تأتي من داخل المادة (الديمقراطية) بينما المشهد الثاني يعكس اضطراب العلاقة بين الدولة والمجتمع ما يؤدي إلى ظهور الصورة (البرلمان) من دون حاجة إلى ديمقراطية تقوم بدور القوة الناظمة التي تقرر طبيعة الشكل ومرتكزاته. لذلك لا ضرورة للإشارة إلى وجود برلمانات عربية من المحيط إلى الخليج من دون أن تكون قائمة على عملية التزاوج بين الصورة والمادة. فالبرلمانات العربية عموماً هي أقرب إلى صورة السلطة وأبعد عن المادة (الديمقراطية) وما تعنيه من نمو قوى سياسية تعبر عن تطور المجتمع.
الاستثناءات في المنطقة العربية قليلة. فالمشهد البرلماني اللبناني (الصورة) يعكس إلى حد معين طبيعة المادة (المجتمع) وما تمثله من طوائف ومناطق ومذاهب. فالديمقراطية اللبنانية هي مادة تتكون من التركيبة الكيماوية لطبيعية المجتمع ما يعطي صورة برلمانية متشابهة معه. كذلك أخذ المشهد البرلماني العراقي يتقارب في صورته مع مادة المجتمع (العمران البشري) وما يمثله من انقسامات أقوامية وقبائلية ومناطقية وطائفية ومذهبية.
التطابق النسبي بين الصورة (البرلمان) والمادة (الديمقراطية) مسألة ضرورية لأنها تعكس في النهاية مدى تطور العلاقة التعاقدية السياسية بين الدولة والمجتمع. وحين تتراجع الصلة بين الصورة والمادة ويصبح البرلمان يتحرك ضمن آليات خارج سياق الديمقراطية يتحول المشهد السياسي إلى حال من الاضطراب والفوضى ويدفع السلطة إلى مزيد من الانكفاء والانغلاق ويضع ما يسمى بالمعارضة في دائرة الامتحان والاستفزاز والتحدي وربما الانزلاق نحو المواجهة كما حصل في الانتخابات الرئاسية الإيرانية الأخيرة.
التوافق بين الصورة والمادة لا يمكن إنكاره لأنه يشكل ذلك الإطار السياسي الذي يضبط المشهد بين برلمان ينتخب دورياً ومتغيرات تحصل تباعاً في المجتمع. والانتخابات عادة تشكل وحدة قياس طبيعية تختبر مدى التطور والنمو وتنبه السلطة وتحذرها وتشجعها على اتخاذ إجراءات إصلاحية لاحتواء متطلبات التقدم وما يفرضه من حاجات مضافة على واجبات الدولة.
عزل البرلمان عن الديمقراطية يعادل عزل الدولة عن المجتمع. ومثل هذه السياسة الخطيرة تؤدي إلى فصل الصورة عن المادة وترك الشارع يتحرك آلياً في قنوات بعيدة عن السلطة ما يضعها لاحقاً في مأزق بنيوي يضعف قدرتها على التوجيه والسيطرة في حال لم تسارع إلى إجراء تصحيحات تبدأ بالمراجعة النقدية وتنتهي بتعزيز الثقة في العملية التعاقدية بين الطرفين.
الفوضى الانتخابية التي تفشت في مصر الآن تحاكي المشهد السياسي الفوضوي العام الذي أخذ يتآكل ويضرب التوازن بين الدولة والمجتمع. فالمقاطعة الحزبية للانتخابات ثم انسحاب حركة الأخوان المسلمين وحزب الوفد من الساحة وعدم خوض الجولة الثانية من معركة البرلمان يكشف عن نمو أزمة ثقة يمكن أن تتطور لتزعزع إطار العقد السياسي (المصالحة) بين سلطة بدأت تنكمش وتنطوي على حلقة ضيقة تستأثر بالحكم وبين شارع أخذ يحتقن ولا يجد تلك الملآذات الآمنة للاستقرار على قناعة واضحة في اختياراتها واتجاهاتها.
هذا الطور من التأزم يحتمل أن ينزلق إلى زاوية حادة من التوتر لأنه لا يعكس أزمة ديمقراطية تبحث عن هوية خاصة بها بقدر ما يتمظهر في أزمة سلطة أخذت تفقد زمام المبادرة في مرحلة مفصلية من الحياة السياسية يعيشها بلد يفترض أنه الأكثر عراقة في تكوين دولة راسخة الجذور. فالدولة في مصر قديمة العهد وهي لم تتشكل على شبكة أهلية متفسخة طائفياً ومذهبياً كما هو حال الدولة في منطقة بلاد الشام (المشرق العربي). وبحكم وجود دولة ذات أسس مستقرة في مصر يصبح المشهد المضطرب أكثر حساسية وإثارة لأنه يرسل إشارة سلبية ويشي بوجود مأزق عميق يتجاوز كل الكلام عن اتهامات بالتزوير والرشوة والبلطجة.
المخاوف هي أن تكون الأزمة أكبر من حفلة تلاعب جرت في إطار معادلة التصويت والصناديق وتدوير النتائج. فهذه الأمور يمكن السيطرة عليها تحت سقف القانون ومظلة المحاكم الدستورية في حال قررت السلطة إجراء مراجعة نقدية للأساليب الخاطئة التي أدارت بها اللعبة الانتخابية. إلا أن الأزمة التي تمظهرت في مشهد الفوضى تكشف عن معطيات بنيوية تهدد استقرار العقد السياسي بين دولة ومجتمع في بلد تاريخي عريق بالتجارب والثقافات.
المسألة أكبر من فوضى انتخابية وهي في مجموعها ترسم خريطة طريق قد تتطور آلياً باتجاه زعزعة ذلك النمط التقليدي الذي استقرت عليه مصر منذ ثورة يوليو (تموز) العام1952 وأرست من خلاله ذلك التعايش السلمي بين السلطة والشارع على رغم ما مرت به البلاد من مطبات وقلاقل وتهديدات خارجية. الأزمة الآن داخلية وهي تتجلى في اتساع الهوة بين الدولة والمجتمع وظهور قوى ميدانية تتحرك على ساحة مستقلة عن شروط ذلك التعاقد (التصالح) السياسي بين الطرفين.
ما يجري في مصر ليس مسألة عادية يمكن التعامل معها وكأنها مجرد أخطاء تقنية وتجاوزات مهنية وفنية حصلت في إطار لعبة انتخابية (اقتراع وصندوق) وإنما قد ترتقي إلى مشكلة حقيقية لا تتوقف عند حدود بناء صورة برلمان يشبه السلطة بل إلى مأزق يؤكد انهيار الثقة بتلك العملية التعاقدية بين الدولة والمجتمع.
وليد نويهض
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 3011 - السبت 04 ديسمبر 2010م الموافق 28 ذي الحجة 1431هـ