طعْم الكِتابة
أنْ تكونَ أديباً - كاتباً أو مُبْدِعاً - في أيّامنا هذه، وعَبْر تاريخ البَشر، مَعناه، بكلّ اختصارٍ، أنْ تكونَ إنساناً؛ إنساناً حُرّاً مُحِسّاً بما لا يُحِسّ به غيْرُكَ، إنساناً يَسْمو على متطَلَّبات الـ»هو» ليُعانِق آفاقاً رَحيبَةً وليَنْشَغِل بأسْئلةٍ وُجُودِية حاسِمَةٍ، إنساناً يَرى ما لا يَراه سِواهُ في دُنْيانَا المُعَقّـدَة، إنساناً مَسْكوناً بهَواجِسِ الآخَرينَ مُكْتَوياً بلَظَى عَذاباتِهم، إنساناً يُعاقِرُ لَذاذَة الدَّواةِ وأسَاوِدَها في الصَّبَاحَات والمَسَاءات الطـِّوالِ؛ إثبَاتاً للذات، ونَقلاً لانْشِغالاتِ الذوات، وتَجْسيراً للصِّلاتِ بين الأديبِ ومَنْ يُحيطُ به وما يَحُفُّ به. وأخَالُ أنّه بذاكَ فقطُّ يَستطيعُ الأديبُ فرْضَ ذاتِه، وخَلْقَ المُواءَمَة مع مُحيطِه، وإسْماعَ صَوْته، ولاسِيما في عصْرنا هذا الذي أمْسَى فيه عالَمُنا قرْيةً كَوْكَبيةً مُتناهِيَةَ الصِّغَر، انْتَفَتِ الحُدودُ بين كِياناته القُطْرِيّة، ومازال السَّعْيُ جارياً على قَدَمٍ وساقٍ؛ لتوْحيدِ أُنَاسِه، وتَنْميطِ ثقافاتِهم، وإذابَةِ خُصُوصِيّاتهم في بُوتَـقةِ السّائِد المُتَغَـلِّب.
***
إنّ طَعْمَ الكِتابةِ، فعْلاً، شَيِّـقٌّ وشاقٌّ، اسْتَشْعَرْتُ حينَ ذُقـتُه أولَ الأمر حَلاوَةً ليسَتْ كبَاقي الحَلاواتِ، ولَذاذةً ليسَتْ كغَيْرها مِن اللَّذات المَذُوقَة المَحْسوسَة على اخْتِلافِها. ولَمَّا توَطَّدَتْ صِلتي بالكَلِمَة، سواء النّاقِدَة أو الشّاعِرَة، طَفِقْتُ أحِسُّ بأنّها جُزْءٌ منّي وبأنّي جُزْءٌ منها. وإلى جانب حَلاوتها تِلكَ، لم أكُنْ بالنّاجِي مِن سِـيَاطِ تَعْذِيبها. فالكِتابَةُ مُعَاناةٌ ومُكَابَدَةٌ، لنْ تُمَكِّـنَكَ مِن بَعْضِها حَتّى تَهَـبَها كُلَّـكَ، ولنْ تَنْقادَ لكَ لتَمْتَطِيَ صَهْوَتَها العَالِيةَ حَتّى تُبْذِلَ لها كُلَّ فُروضِ الطّاعَة والتّفَرُّغ والعِشْق. وأظُنُّ أنَّ كلَّ مُبِْدِعٍ أو كاتِبٍ اهْتَدَى واقتدَرَ على مُلامَسَة جَمالِ الكِتابَة، وتَذوُّق طَعْمِها الشَّيِّق والشّاقِّ معاً حَتى سُكِنَ بجَانِّها، وأُصِيبَ بـ»لعْنَتِها» (المَطلوبَة!)، فسَيَكونُ صَعْباً عليه، وإنْ لمْ أقلْ مُتَعَذراً، التنَصُّلُ من حِبَالِها، ونِسْيانِ طَعْمِها الذي أحَسَّ به حِينَ ذاقًهُ في بدايةِ الأمْرِ. وعليْهِ، فالإحْساسُ بمَذاقِ الكِتابةِ ذي «النَّكْهَة» المُزْدَوجَة مُسْتَمِرٌّ بالنسْبَة إليَّ، ولا يَزيدُه كُرورُ الأيّام وتَوالِيها إلاّ تَرْسيخاً وإنْماءً
فريد أمعضشـو
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 3232 - الخميس 14 يوليو 2011م الموافق 12 شعبان 1432هـ