نظم مغلقة وشعوب تواقة للحرية والكرامة
نبيل علي صالح
كم كان مكلفاً ومدمراً لنا جميعاً (كأفراد ومجتمعات ودول) وعلى مديات زمنية طويلة، بقاء وهيمنة مثل هذه النظم العربية المغلقة والمفلسة والمتكورة على مصالحها، ومصالح رموزها ونخبتها ودوائرها الخاصة، ومراكز قواها السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية الخفية منها والظاهرة التي بنتها بالاستناد اللاشرعي واللاقانوني على كمٍّ هائل من مفاهيم وسلوكات الردع والضبط والقمع والعنف السافر ماديّاً ومعنويّاً.
والكلفة الباهظة تجذرت واتسعت وامتدت بالطبع على مدار عقود، إلى أن ظهرت نتائجها المدمرة وارتسمت نهاياتها المأساوية من خلال هذا الفشل الكبير والمدوي لمجمل خطط واستراتيجيات التنمية البشرية والاقتصادية التي اعتمدتها وسارت عليها تلك النظم المفلسة، والتي لم تكن الغاية منها سوى تكريس نشوء ونمو طبقة سياسية واقتصادية واجتماعية طفيلية جديدة غنية متوحشة مفصولة عن مجتمعاتها الغارقة في بحر لُجيٍّ لا قرار له من الفساد والإفساد والاستبداد.
وهنا نسأل: إذا ما كان مجرد بقاء تلك النظم يزيد من الكلفة المدفوعة من قبل الأمة والمجتمعات العربية إلى درجة تأخرها وتقهقرها على المستويات والأصعدة السياسية (استبداد وقمع) والاقتصادية (تخلف ومعدلات نمو متدنية وبطيئة) والعلمية (لا اختراعات ولا مكتشفات ولا بحث علمي)، فما هي الكلفة التي ستدفع (ويبدو أنها بدأت تدفع بالفعل) للخلاص من تلك النظم والسلطويات القاهرة التي أعلنت سافرة ومن دون أي خجل أن زوالها يعني دمار مجتمعاتها؟
في الواقع لابد من الإقرار بأن مجتمعاتنا، وطالما أنها تعيش في قلب الفشل والحطام المادي والمعنوي منذ عقود، ولم تشم نسيم الحرية الحقيقية إلا بعد خروجها إلى الشارع وصراخها المدوي في وجوه نظمها وفراعنتها، فإنه لم يعد يهمها أن تكابد وتعاني وتدفع المزيد من التكاليف وفواتير الإصلاح والتغيير، وتتحمل الكثير من الأعباء والأثمان الباهظة من دمها ودموعها ومستقبلها للتخلص من وجود وبقايا تلك النظم العقيمة ورمي ثقافتها السلطوية المدمرة، وخصوصاً مع وجود حالة غير طبيعية لدى هؤلاء الحكام وزبانيتهم وجلاوزتهم تتمثل في هذا التمسك المهووس بالسلطة واستمرار الهيمنة على العباد والبلاد، فهم يرفضون الرحيل تحت أي مسمى، ويشتغلون فقط على ما يتقنونه من أساليب التهديد وفنون الوعيد القديمة والجديدة، ويمارسون الحروب ضد أبناء مجتمعاتهم للبقاء الأبدي في جنة السلطة على رغم رفض شعوبهم لهم. كما وينكرون على الناس حقوقهم ومطالبهم القائمة على إعادة الاعتبار الشرعي والتاريخي والحقوقي والإنساني إلى قيم الحرية والعدالة والمساواة والكرامة وغيرها من القيم الإنسانية العالية.
إن هذه النظم العنيفة المكروهة التي أصبحت تتمثل في أذهان شعوبها بصور شتى من سلوكات الشيطنة والأبلسة، ستذهب من دون أدنى شك إلى مزابل التاريخ، وسنتذكرها جميعاً فقط من زاوية الاعتبار والمواعظ والعِبر التاريخية، بأن نعلِّم أبناءنا ثقافة المحبة والتسامح والحرية التي لم تعرف تلك النظم طريقاً إليها على رغم كونها (أي الحرية) إحدى الشعارات واللافتات والعناوين العريضة التي رفعتها تلك النظم واشتغلت عليها طويلاً، فأنتجت بدلاً عنها الكبت وكم الأفواه وسحق الناس، وبناء مئات السجون والمعتقلات، مع عشرات آلاف القتلى والضحايا ومئات آلاف المفقودين والمشردين والمنفيين والمهجرين، إضافة إلى هدر كبير وإفساد عريض في الثروات والموارد الطبيعية التي هي ملك الناس جميعاً وليست ملكاً مسجلاً لهذه الفئة أو ذاك الحاكم. إنها بالفعل نظم تسلطية بنت دولاً فاشلة على صعيد معيشة الناس، وقمع الحريات، واستيلاء أجهزة الأمن على كل شيء، ومصادرة مظاهر وقيم وأفكار الحياة الجميلة لصالح قوى الرعب والإكراه.
ونحن نجد أن هؤلاء الناس، في مختلف أنحاء وطننا العربي الكبير، الراغبين في حدوث التغيير والساعين إليه والمشاركين بقوة فيه، والمنتفضين ضد نظمهم المستبدة يقدمون لنا، من جهة، صوراً حية أصيلة عن هذه الطاقة النوعية الكامنة في تلك المجتمعات والتي كنا نشك حتى وقت قريب في وجودها بعد تغييب قسري طويل، ومن جهة أخرى نجدهم يمارسون أرقى أنواع الحراك السلمي الحضاري التواق إلى معانقة قيم الحرية والكرامة والديمقراطية، والمتطلع إلى بناء دولة القانون والمؤسسات المدنية، والمعبر أيضاً عن لا شرعية النظم التي تجثم فوق صدور تلك المجتمعات منذ عهود. فشرعية تلك الأنظمة، التي لم تنجح في شيء أكثر مما نجحت في زيادة خصومها والراغبين في زوال طغيانها واستبدادها، ما كانت ترتكز على قناعات الناس من أبناء مجتمعاتها، ولم يكن أهل الحكم والسلطان فيها يفكرون بهم أصلاً أكثر مما كانوا يفكرون ويأخذون في الاعتبار موافقة ورضا الدول الإقليمية ومراكز القرار الدولية الأخرى على وجودهم، وبالتالي فهي لم تكن تحظى بالتأييد والشعبية الطوعية، بل اعتمدت بصورة دائمة على استخدام العنف البدائي العاري والقوة الباطشة والقمع والتخويف وتعميم ثقافة الرعب، مضافاً إليه الحفاظ على توازنات بقائها في أداء وظائف وأدوار مرسومة بدقة لها من خلال تلك العلاقات المتمحورة حول التجاذب والتكامُل مع الولايات المتحدة وغيرها من القوى الدولية هنا وهناك.
ولكن الشعوب في مواجهة تلك الوظائف والأدوار ومجمل السياسات الوطنية الداخلية الفاشلة، بدأت تتحرك وتقول كلمتها، وها هي تحاول من جديد إعادة السياسة إلى مجتمعاتها بعد أن عزلت عنها، وبعد أن أخذتها تلك النظم من ساحتها إلى ساحات فئوية طبقية ضيقة لا تعبر عن مصالح الشعوب والأوطان بمقدار ما تعبر عن مصالح حلقات أقلوية انتهازية رهنت الكل لخدمة الجزء.
من هنا اعتقادنا الجازم بأن النجاح الباهر سيكون من نصيب هذه الشعوب المغلوبة على أمرها، لأنها وبمنطق التاريخ تطالب بالعدالة وإحقاق الحق والحرية والمساواة، وهي تتوق إلى الديمقراطية والحياة المدنية الحرة، وأساس هذه الديمقراطية سيادة الشعب واستقلال الدولة وقرارها الوطني.
كما أن ما جرى في تلك البلدان المغلقة لم يعد مقبولاً، ولم يعد بمقدور تلك المجتمعات أن تتحمل أكثر التكاليف المدمرة من حياتها ومستقبلها ومن أمنها واستقرارها، على رغم أن تلك المجتمعات مستعدة حتى اللحظة للتضحية بالمزيد ودفع الغالي والرخيص للخلاص من عهود الظلم والتوحش الذي أذيقت فيه الأمرّين من صنوف القتل والقهر والعذاب، حيث باتت تعتقد أن تكاليف إزالة تلك الأنظمة المتخلفة أقل بكثير من تكاليف بقائها. وهذا الوعي توصلت الشعوب إليه جراء تجاربها الحية مع تلك النظم على مدار عقود، كما أصبحت مطلعة على حقائق الأمور، وسياسة الحجب والإخفاء والتزييف والتضليل باتت مكشوفة بالكامل من دون تجميل أو تعديل.
ولهذا وبما أن تطورات العلم وانتشار العولمة الإعلامية وتوسع شبكات التواصل الاجتماعي، فتح المجال للاطلاع السريع على كل شيء، والوقوف الواعي المتأمل أمام كل الأحداث والتغيرات بتفاصيلها، فقد رأى الناس ما حدث في تجارب الشعوب الأخرى، الغربية والشرقية على حد سواء، من تطورات مذهلة انعكست إيجاباً على مستوى معيشة تلك الشعوب، ودخلها المرتفع، ومستوى تنميتها الاقتصادية العالية، وحرياتها الكاملة، وحياتها السياسية القائمة على الفرد الحر والتداول السلمي للسلطة، وإشاعة أجواء السلام المجتمعي، والتسابق في خدمة الصالح العام.
وهكذا انطلق هؤلاء في مجتمعاتنا العربية ليقارنوا بين تجارب تلك الدول المتطورة وبين نظمهم القمعية وواقعهم الفاسد المنقسم والمتخلف في كل شيء. فماذا كانت النتيجة؟ كانت أن هناك نخباً محلية ضيقة الأفق وسيئة النشأة ذات ارتباطات إقليمية ودولية، هي التي تهيمن على كل ثروات البلاد، بينما تركت وهمشت قطاعات واسعة من أبناء المجتمع. وقد تزايدت هذه الظاهرة في السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ، مع التوجه لتبني آليات السوق والتجارة الحرة، وتراجع الدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة، وازدياد البطش وآليات القمع والاستبداد، وغياب الحقوق والحريات، مع انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، وتركيز السلطة في يد نخب مرتبطة بالحزب أو بالشخص أو بالأسر الحاكمة.
وهكذا توصل كثير من الناس في عالمنا العربي إلى قناعة راسخة بأن السبب في معاناتهم وفقرهم وتخلفهم وتقهقرهم هو وجود تلك النخب والطبقات ومراكز القوى، وبقاء حكامهم ومن ورائهم هذا العدد الكبير من قوى وأجهزة الأمن واسعة الصلاحيات والمحمية بالقوانين، ما منعها ويمنعها باستمرار من التطور والنمو وتلبية احتياجات شعوبها السياسية وغير السياسية، ومواكبة تطورات الحياة المعاصرة، ويمنع الناس من العيش الحر الآمن الكريم.
وهنا جاءت وتفجرت لحظة الثورة في حالة تجلٍّ راقٍ لقيم الوعي الإنساني، وانتفضت الشعوب العربية في اتجاه تحقيق وجودها، وثارت لكرامتها المفقودة وحريتها الضائعة، وباتت تسكن في الشارع سعياً لنيل وانتزاع حقوقها، ويبدو أنها لن تعود مرة أخرى لبيوتها وعملها ما لم تلبَّ تلك المطالب المتركزة حول الحرية والكرامة تحديداً، وليس على الأكل والخبز والعمل، لأن هذا كله يأتي لاحقاً بعد الخلاص من تلك النظم ومحاسبة أركانها ورموزها
هذا المقال ينشر بالتعاون مع مشروع منبر الحرية
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 3280 - الأربعاء 31 أغسطس 2011م الموافق 01 شوال 1432هـ