مسلسل «الغاضبون»!
في شهر رمضان المبارك (أغسطس/ آب الماضي) عرض مسلسل «الغالبون» على بعض شاشات التلفزة، وفي شهر أكتوبر/ تشرين الأول بدأ العالم يشاهد على الطبيعة حلقات أكثر إثارة من مسلسل «الغاضبون».
المسلسل الأول كان يحكي قصة انطلاق حركة مقاومة عربية شرسة، في بقعةٍ صغيرةٍ من أرض الجنوب، أجبرت المحتل الإسرائيلي على الجلاء. أما المسلسل الثاني فامتدت رقعته الجغرافية على امتداد القارات الخمس، بعدما انطلقت شرارته من قارة إفريقيا. حتى نيوزيلندا، ذلك البلد الغارق في عزلته بالمحيط الهادي، وصلته شرارة الغضب المقدَّس.
من مفارقات التاريخ، أن العالم العربي الذي دخل مرحلة السبات الحضاري منذ 800 عام بسبب الاستبداد، كان هو الزناد الذي أطلق الشرارة من قرية تونسية جنوبية صغيرة. فلأول مرةٍ في التاريخ يمارس العالم العربي فعلاً مؤثراً عالمياً، بعدما عاش قروناً مغيَّباً وتابعاً وأسيراً.
حركة «الغاضبين» اتخذت بعداً عالمياً، فنزل ملايين البشر في مئات المدن عبر العالم، إلى الشوارع للاحتجاج على النظام الاقتصادي الذي تقوده النخب السياسية البطِرَة. هذه الملايين التي كانت تقرأ مغامرات برلسكوني الجنسية، ونزق كارلا بروني زوجة ساركوزي، وتكظم غيظها وتراكم شعورها بالعجز، جاءتها الفرصة أخيراً للانتفاض على هذه الرأسمالية التي تعيد إنتاج الأزمات.
بدأت الشرارة من إحدى ساحات مدريد، في 15 مايو/ أيار الماضي، على يد مجموعة أسمت نفسها «الغاضبون»، لم يكن لهؤلاء إذاعاتٌ أو صحفٌ أو فضائيات، وكانت ساحتهم الأولى شبكات التواصل الاجتماعي. هذا الفضاء «الافتراضي»، تحوَّل خلال أشهر إلى فضاءٍ أكثر واقعية وتأثيراً على سياسات الدول من كل الصحف والإذاعات والفضائيات ووسائل الإعلام القديم.
السبت الماضي (15 أكتوبر)، نزلت الملايين في أكثر من 950 مدينة في 80 بلداً، للاحتجاج على هذا النظام الرأسمالي المتوحش الذي يبيح لثلةٍ قليلةٍ من الرأسماليين الجشعين، التحكم في أقوات ومصائر الملايين. وربما يحق لنا - نحن العرب - شرف المساهمة في إنزال كلمة «الكرامة» من القواميس وكتب الأخلاق إلى شوارع المدن الغربية في هذا الجيل.
حين كان القذافي يسافر بخيمته إلى عواصم الغرب، يجد الإعلام مادة خصبة للسخرية ورسوم الكاريكاتير لأسابيع قادمة. أما اليوم، فمع استعادة الشعوب العربية جزءًا من كرامتها، أصبحت الخيام العربية تنصب في تلك العواصم. ففي وسط لندن نصب المتظاهرون 70 خيمة، وفي فرانكفورت أقام المئات مخيماً لهم أمام البنك المركزي الأوروبي، وأقيمت 50 خيمة أمام مبنى البورصة في أمستردام بهولندا. وفي روما أقام المحتجون خياماً أيضاً.
الشباب العربي الذي كان ينزل الميادين ويردد سيمفونيته الساحرة «سلمية... سلمية» بدا مؤثراً وملهـِماً. صحيفة «لاستامبا» الإيطالية قالت إن «العالم يخرج إلى الشوارع متحداً وسلمياً ومنوعاً». وكتب الصحافي ايغينيو سكالفاري في «ريبابليكا»: «الحقيقة أنه توجد الآن حركة عالمية كانت مقدمتها الربيع العربي، وتعبِّر عن غضب جيل ليس له مستقبل ولا يثق بالسياسات التقليدية».
جوليان اسانج (مؤسس موقع «ويكيليكس» الذي فضح النخبة السياسية الحاكمة في العالم) أعلن دعمه للمتظاهرين «لأن النظام المصرفي في لندن يتلقى أموالاً فاسدة». أما مارتن لوثر كنغ الابن فخاطب المتظاهرين في واشنطن أن «والده كان سيفخر بهم لو رآهم»... ولو رآهم غاندي وأبوذر لفخرا أيضاً.
من مفارقات هذه اللحظة التاريخية المدهشة، أن الرؤوس التي قادت جيوش الزحف الأطلسي على طرابلس الغرب، في هجمةٍ تذكرنا بجيوش الغزاة البرابرة، باتت تواجه مظاهرات في نيويورك وباريس ولندن وروما... تطالبها بالرحيل
قاسم حسين
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 3327 - الإثنين 17 أكتوبر 2011م الموافق 19 ذي القعدة 1432هـ