المواقف المشرفة للأنصار الكربلائيين
1- موقف زهير بن القين البجلي .
حدث جماعة من فزارة وبجيله فقالوا : كنا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكة ، فكنا نساير الحسين (ع) فلم يكن شيء أبغض عليه من أن نسير معه في مكان واحد ، فإذا سار الحسين (ع) تخّلف زهير ، وإذا نزل الحسين (ع) تقدم زهير حتى نزلنا يوماً في منزل لم نرى بداً من أن ننازله فيه ، فنزل الحسين (ع) في جانب ونزلنا في جانب ، فبينما نحن جلوس نتغدى من طعام لنا إذ أقبل رسول الحسين (ع) حتى سلّم ، ثم دخل..
فقال : يازهير إن أبا عبدالله (ع) بعثني إليك لتأتيه ، فطرح كل إنسان منا ما في يده حتى كأن على رؤوسنا الطير ، كراهة أن يذهب زهير إلى الحسين (ع) ... فإنهم كانوا عثمانيه يكرهون الحسين (ع) وأباه أمير المؤمنين (ع) وأخاه المجتبى (ع)
قال أبو مخنف: فحدثتني دلهم بنت عمرو ـ إمرأة زهير بن القين ـ قالت: فقلت له: يبعث إليك إبن رسول الله ثم لا تأتيه؟! سبحان الله لو أتيته فسمعت من كلامه ثم إنصرفت.
قالت: فأتاه زهير بن القين، فما لبث أن جاء مستبشراً، قد أسفر وجهه، فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه فقدم وحمل إلى الحسين ثم قال: أنت طالق، إلحقي بأهلك، فإني لا أحب أن يصيبك من سببي إلا خيراً، وخلد التاريخ دلهم بنت عمرو لموقفها المشرف في نصرة الحق، والتضحية لإعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى بأعز ما تملك.
ثم قال لأصحابه: (من أحب منكم أن يتبعني وإلا فإنه آخر العهد. إني سأحدثكم حديثاً: غزونا بلنجر ففتح الله علينا، وأصبنا غنائم، فقال لنا سلمان الباهلي: أفرحتم بما فتح الله عليكم وأصبتم من المغانم؟
فقلنا: نعم.
فقال لنا: إذا أدركتم شباب آل محمد فكونوا أشد فرحاً بقتالكم معهم بما أصبتم من الغنائم. فأما أنا فإني أستودعكم الله).(1)
من جملة مواقف زهير البطولية
أنه لما التقى الحسين (ع) بالحر بن يزيد الرياحي بذي حسم (وهو جبل) ومنعهم الحر من المسير عندها خطبهم الحسين (ع) خطبته التي يقول فيها : إنه نزل بنا من الأمر ماقد ترون ... إلى آخرها
فقام زهير (ع) وقال لأصحابه : تتكلمون أم أتكلم ؟
قالوا : بل تكلم
قال : بعد أن حمد الله وأثنى عليه ، قد سمعنا هداك الله يابن رسول الله (ص) مقالتك ، والله لو كانت الدنيا لنا باقيه ، وكنا فيها مخلدين إلا أن فراقها في نصرك ومواساتك ، لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها ، فدعا له الحسين (ع) وقال له خيراً . (2)
ولما عبّأ الحسين (ع) أصحابه للقتال ، جعل في ميمنته زهير بن القين (ع) ولما خطب الحسين (ع) أهل الكوفة يوم عاشوراء ونزل ، كان أول من خطب بعده زهير بن القين (ع) ، فخرج على فرس وهو شاك في السلاح فقال : يا أهل الكوفه ، بدار (إنذار) من عذاب الله بدار (إنذار) ، أن حقاً على المسلم نصيحة المسلم ، ونحن حتى الآن أخوة على دين واحد وملة واحده مالم يقع بيننا وبينكم السيف ظن فإذا وقع السيف انقطعت العصمة ، وكنا نحن أمة وأنتم أمة ، إن الله قد ابتلانا وإياكم بذرية نبيه محمد (ص) ، لينظر ما نحن وأنتم عاملون ، إنا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغيه عبيد الله بن زياد عليه لعائن الله ..
ولمّا فرغ الحسين (ع) من صلاة الظهر يوم العاشر من المحرم ، تقدّم زهير (ع) ، فجعل يقاتل قتالاً لم ير مثله ، ولم يسمع بشبهه ، حمل على القوم وهو يقول :
أنـا زهـيـر وأنـا ابـن القـيــن أذودكم بالسيف عن الحسين
إن حسـيـنـاً أحـد السـبـطـين مـن عـتـرة البر التقي الزين
ذاك رسـول الله غـيـر الـمَين أضـربـكـم ولا أرى من شين
فقتل (ع) مائة وعشرين رجلاً ، ثم رجع ووقف أمام الحسين عليه الصلاة والسلام وقال له:
فـدتـك نـفـسـي هادياً مهديّا اليــوم ألقــى جــدّك النّبـيـّا
وحسنـاً الـمـرتـضـى وعليّا وذا الجناحين الشهيد الحيّا
فكأنّه ودّعه ، وعاد يقاتل فشّد عليه كثير بن عبدالله الشعبي لعنة الله عليه ومهاجر بن أوس التميمي فقتلاه ، ولما صرع وقف عليه الحسين (ع) فقال : لا يُبعِدنَّك الله يا زهير ، ولعن الله قاتلك ، لثعِنَ الذين مُسِخوا قردةً خنازير(3 . (
قال الإمام المهدي (عليه السلام) في زيارة الناحية: (السلام على زهير بن القين البجلي، القائل للحسين (عليه السلام) وقد إذن له في الانصراف: لا والله لا يكون ذلك أبداً؛ أترك ابن رسول الله صلى الله عليه وآله أسيراً في يد الأعداء وأنجو أنا!! لا أراني الله ذلك اليوم). (4)
لقد كان زهير شريفاً في قومه ، نازلاً بالكوفة شجاعاً ، له في المغازي مواقف مشهودة مشهورة وكان قد حج في السنة التي خرج فيها الحسين (ع) ، فلما خرج من الحج جمعه الطريق في الحسين (ع) فكلمه الحسين (ع) فأصبح باستشهاده حسينيا وفاز وسجل إسمه في سجل الفائزين.. ((5)
2- موقف برير بن خضير الهمداني
كان برير شيخا تابعيا ناسكا ، قارئا للقرآن ، من شيوخ القراء ، ومن أصحاب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وكان من أشراف أهل الكوفة من الهمدانيين ، وهو خال أبي إسحاق الهمداني السبعي (6) .
قال أهل السير : أنه لما بلغ خبر الحسين ( عليه السلام ) سار من الكوفة إلى مكة ليجتمع بالحسين ( عليه السلام ) فجاء معه حتى استشهد .
مما روي أن الحسين(ع) خطب أصحابه في ليلة العاشر وأمرهم بالإنصراف وأن يتفرقوا عنه في سواد الليل وأراد بذلك أن يستكشف حسن نياتهم ثم ترك لهم مايفصحوا عنه من حديث فجاء دور برير بن خضير الهمداني فتكلم وقال :
يا أبا عبدالله ، لو كانت الدنيا باقية ونحن فيها مُخَلَّدون ، وكانت الآخرة فانية ونحن فيها ميتون ، لآثرنا الفناء معك على الخلود في الدنيا.
وبرير هذا هو الذي كان يداعب ويمازح أحد رفقائه ـ عبدالرحمن الأنصاري يوم العاشر .. فقال له عبدالرحمن : أهذا وقت باطل يا برير ؟ فقال برير باسماً: والله ما عرفتُ الباطل كهلاً ولا شابا، ولكنها واللهِ الجنة. فليس بيننا وبين دخولنا الجنة إلا أن يميل علينا هؤلاء بسيوفهم ، ووددت لو أنهم مالواعلينا الساعة. (7)
برير بن خضيرخرج إليه يزيد بن معقل لمحاربته ودعاه للمباهلة ، واتفقا على المباهلة إلى الله : في أن يقتل المحق منهما المبطل ، فتلاقيا ، فقتله برير ، ولم يزل يقاتل أعداء الله وهو يرتجز ويقول:
أنا برير وأبي خضير * وكل خير فله برير
حتى قتل رضوان الله عليه وجاءه الحسين(ع) ورفع رأسه من التراب وأخذ يمسح دمه ويقول رحمك الله ياشيخ القراء يابرير وحشرك مع حبيبك محمد في الجنان وجزاك الله عنا وعن دينه خير جزاء الأوفياء. (
هكذا توج الشهيد برير الهمداني بتاج الشهادة ومضى بمواقفه ومناصرته لإمامه شهيدا محتسبا وخلد خلفه ذكريات تذكرها الأجيال تلو الأجيال الموالية بالإكبار والإجلال والإفتخار بهؤلاء الشهداء الأبرار..
3- موقف حبيب بن مظاهرالأسدي
حبيب صحابي جليل، ممن رأى الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وسمع حديثه، ولم يكن حبيب الصحابي الوحيد في جيش سيد الشهداء (عليه السلام) فهناك الكثير منهم. وكان من أصفياء أصحاب أمير المؤمنين (ع) ومن ثقاته المعتمدين في الكوفة..
ولازم حبيب الإمام أمير المؤمنين (ع) طيلة خلافته وتخرج من مدرسته الكبرى، وحمل عنه علوماً جمة، ويكفي في فضله أن يكون من صفوة أصحابه الأجلاء وهم سادة المسلمين علماً وعملاً. كما صحب من بعده الإمام الحسن (ع)، وقد عده البرقي من أصحابه.
وأما صحبته لسيد الشهداء (ع) فظاهرة وجلية حيث أنه كان من الذين كتبوا إلى الإمام الحسين (ع) يدعونه للمجيء إليهم. ثم جعل يأخذ البيعة مع مسلم بن عقيل رضوان الله عليه) في الكوفة للحسين (ع)، حتى جاء إبن زياد، وخذّل أهل الكوفة عن مسلم، فأخفته عشيرته، حتى ورد الإمام الحسين (ع) إلى كربلاء فخرج إليه متخفياً(9)
وأيضا من جملة مواقفه البطولية المشرفة :
دعا عمربن سعد قرة بن قيس الحنظلي فقال له: ويحك يا قرة إلق حسيناً فسله ما جاء به وماذا يريد؟
فأتاه قرة بن قيس فلما رآه الحسين مقبلاً قال: (أتعرفون هذا)؟
فقال حبيب بن مظاهر: نعم، هذا رجل من حنظلة تميم، وهو إبن أختنا، ولقد كنت أعرفه بحسن الرأي وما كنت أراه يشهد هذا المشهد.
فجاء حتى سلم على الحسين وأبلغه رسالة عمر بن سعد إليه فقال له الحسين: كتب إليّ أهل مصركم هذا أن أقدم، فأما إذا كرهوني فأنا أنصرف عنهم
ثم قال له حبيب بن مظاهر: ويحك يا قرة بن قيس أنّى ترجع إلى القوم الظالمين انصر هذا الرجل الذي بآبائه أيدك الله بالكرامة وإيانا معك.
فقال له قرة: أرجع إلى صاحبي بجواب رسالته وأرى رأيي. (10)
وأيضا من مواقفه العظيمة لما حل وقت الزوال وبعد أن قتل أكثر جيش الحسين (عليه السلام) يقول أبو ثمامة الصائدي: يا أبا عبد الله نفسي لك الفداء، إني أرى هؤلاء قد إقتربوا منك، ولا والله لا تقتل حتى أقتل دونك إن شاء الله، وأحب أن ألقى ربي وقد صليت هذه الصلاة التي قد دنا وقتها.
فرفع الحسين رأسه ثم قال: (ذكرت الصلاة جعلك الله من المصلين الذاكرين، نعم هذا أول وقتها. (
ثم قال (عليه السلام): (سلوهم أن يكفوا عنا حتى نصلي.
فقال لهم الحصين بن تميم: إنها لا تقبل.
فقال له حبيب بن مظاهر: لا تقبل - زعمت - الصلاة من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقبل منك يا حمار.
فحمل عليهم حصين بن تميم وخرج إليه حبيب بن مظاهر فضرب فرسه بالسيف فشب ووقع وحمله أصحابه فاستنقذوه.
وأخذ حبيب يرتجز ويقول:
أنا حـبـيـب وأبـي مظــــاهر فارس هيجاء وحرب تسعر
أنـتـم أعـــد عــدةً وأكــــثــر ونـحن أوفى منكم وأصبــر
ونحـن أعلـى حجة وأظهـر حقــاً وأتقـى منكـم وأعـذر
فمازال يقاتل الأعداء فقتل على كبره إثنين وستين رجلاًً، وحمل عليه بديل بن صريم فضربه بسيفه، وطعنه آخر من تميم برمحه فسقط إلى الأرض حاول ليقوم وإذا الحصين يضربه بالسيف على رأسه فسقط لوجهه ونزل إليه التميمي وأحتزّ رأسه. (11)
نعم قاتل حبيب قتالاً شديداً حتى قتل رضوان الله تعالى عليه ونال شرف الشهادة بين يدي أبي عبدالله الحسين بن علي عليه السلام.
هو حبيب بن مظاهر الأسدي، كنيته أبو القاسم، من أصحاب الإمام الحسين (ع) الذين إستشهدوا معه في العاشر من محرم الحرام عام (61هـ)، وكان عمره يوم أستشهد (75) سنة. (12)
4- موقف مسلم بن عـوسجة الأسدي
هو مسلم بن عوسجة بن سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة ، أبو حجل الأسدي السعدي ، كان رجلا شريفا سريا عابدا متنسكا .
قال ابن سعد في طبقاته : وكان صحابيا ممن رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وروى عنه الشعبي . وكان فارسا شجاعا ،. وقال أهل السير : إنه ممن كاتب الحسين ( عليه السلام ) من الكوفة ووفى له ، وممن أخذ البيعة له عند مجيئ مسلم بن عقيل إلى الكوفة. (13)
وذكروا أن مسلم بن عوسجة بعد أن قبض على مسلم وهاني وقتلا اختفى مدة ثم فر بأهله إلى الحسين فوافاه بكربلا وفداه بنفسه . وروى أبو مخنف عن الضحاك بن عبد الله الهمداني المشرقي : أن الحسين خطب أصحابه فقال في خطبته : " إن القوم يطلبونني ولو أصابوني لهوا عن طلب غيري ، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا ، ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي " فقال له أهله وتقدمهم العباس بالكلام : لم نفعل ذلك ؟ ! لنبقى بعدك ، لا أرانا الله ذلك أبدا .
ثم قام مسلم بن عوسجة فقال : أنحن نخلي عنك ولم نعذر إلى الله في أداء حقك ؟ ! أم والله لا أبرح حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ولا أفارقك ، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به ، لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك ، ثم تكلم أصحابه على نهجه (14) .
قال الشيخ المفيد : ولما أضرم الحسين ( عليه السلام ) القصب في الخندق الذي عمله خلف البيوت مر الشمر فنادى : يا حسين أتعجلت بالنار قبل يوم القيامة ؟ فقال له الحسين : " يا بن راعية المعزى ، أنت أولى بها صليا " ، فرام مسلم بن عوسجة أن يرميه فمنعه الحسين ( عليه السلام ) عن ذلك ، فقال له مسلم : إن الفاسق من أعداء الله وعظماء الجبارين ، وقد أمكن الله منه ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : " لا ترمه فإني أكره أن أبدأهم في القتال " (15) .
ذكرأرباب المقاتل عن المشاركة البطولية لمسلم بن عوسجة وقالوا:
لما حميت وطيد المعركة بين الفريقين قال من رأى أن مسلما كان يجدل الفرسان في جيش بن زياد ويبضع الفارس منهم ويلقيه على الآخر ويقاتل قتال المستميت وهو يقول:
إن تسألـوا عني فإني ذو لبد وإن بيتي في ذرى بني أسـد
فـمـن بغاني حائد عن الرشد وكـافـر بـديـن جــبـار صمـد
ولم يزل يضرب فيهم بسيفه حتى عطف عليه مسلم بن عبد الله الضبابي وعبد الرحمن بن أبي خشكارة البجلي ، فاشتركا في قتله ، ووقعت لشدة الجلاد غبرة عظيمة ، فلما انجلت إذا هم بمسلم بن عوسجة صريعا ، فمشى إليه الحسين ( عليه السلام ) فإذا به رمق ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : " رحمك الله يا مسلم (فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ) (16)
5- موقف عابس بن شبيب الشاكري
الشهيد البطل عابس بن شبيب من رجال الشيعةالمعروفين ومن ليوث الطفوف الأشاوس وكان رئيساً، شجاعاً، خطيباً، ناسكاً متهجّداً. وكان من أعظم الثوار، إخلاصاً وحماساً. (17)
وقد أرسله مسلم بن عقيل إلى الحسين بالرسالة التي أخبره فيها ببيعة أهل الكوفة، ودعاه إلى القدوم، وذلك قبل الانقلاب المضاد لأهل الكوفة. وعائلة الشاكري تنتمي إلى قبيلة بني شاكر من عرب الجنوب وهو قحطاني الأصل من جنوب اليمن .
قال أبو جعفر الطبري : قدم مسلم بن عقيل الكوفة فاجتمع عليه الشيعة في دار المختار ، فقرأ عليهم كتاب الحسين ( عليه السلام ) فجعلوا يبكون ، فقام عابس بن أبي شبيب ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد فإني لا أخبرك عن الناس ، ولا أعلم ما في أنفسهم ، وما أعرك منهم ، ولكن والله أخبرك بما أنا موطن نفسي عليه ، والله لأجيبنكم إذا دعوتم ، ولأقاتلن معكم عدوكم ولأضربن بسيفي دونكم حتى ألقى الله ، لا أريد بذلك إلا ما عند الله (18) .
وكان للشهيد عابس موقف بطولي مشرف مع الإمام الحسين عليه السلام لابد لنا أن نذكره لأنه من أروع المواقف المشرفة..
في يوم عاشوراء حينما القى عابس ملابس الحرب من الدرع واللامة وورد المعركة بكل صلابة ورباطة جأش وكان العسكر يهابه فرشقوه من كل صوب بالنبال والرماح والحجاره فقيل له: أجننت يا عابس ـ اي لماذا نزعت لباس الحرب؟ قفال : (حب الحسين أجنني) ..
وكان عابس بن شبيب أشجع الناس ، وعندما خرج للقتال يوم عاشوراء كان القوم يهربون منه وهم يقولون: هذا أسد الأسود ، هذا ابن أبي شبيب ، لا يخرجن إليه أحد منكم ، فأخذ عابس ينادي : ألا رجل ألا رجل ؟ ! فلم يتقدم إليه أحد ، فنادى عمر بن سعد : ويلكم ارضخوه بالحجارة . فرمي بالحجارة من كل جانب فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفره خلفه ، ثم شد على الناس ، فوالله رأيته يكرد أكثر من مائتي من الناس ،ثم إنهم تعطفوا عليه من حواليه ، فقتلوه واحتزوا رأسه ، فرأيت رأسه في أيدي رجال ذوي عدة ، هذا يقول : أنا قتلته ، وهذا يقول : أنا قتلته فأتوا عمر بن سعد فقال : لا تختصموا ، هذا لم يقتله إنسان واحد ، كلكم قتله ، ففرقهم بهذا القول ومضى شهيدا رضوان الله تعالى عليه (19) .
وقد ذكره الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف في زيارة الناحية وقال: السلام على عابس بن شبيب الشاكري.(20)
6- موقف جون بن جوين (مولى إبي ذر)
كان جون منضما إلى أهل البيت بعد أبي ذر ، فكان مع الحسن ( عليه السلام ) ، ثم مع الحسين ( عليه السلام ) وصحبه في سفره من المدينة إلى مكة ثم إلى العراق .
قال السيد رضي الدين الداودي : فلما نشب القتال وقف أمام الحسين (عليه السلام) يستأذنه في القتال ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : " يا جون أنت في إذن مني فإنما تبعتنا طلبا للعافية فلا تبتل بطريقتنا " ، فوقع جون على قدمي أبي عبد الله يقبلهما ويقول : يا بن رسول الله أنا في الرخاء ألحس قصاعكم وفي الشدة أخذلكم!؟ إن ريحي لنتن وإن حسبي للئيم وإن لوني لأسود ، فتنفس علي في الجنة ليطيب ريحي ويشرف حسبي ويبيض لوني ، لا والله لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم ،فأذن له الحسين ( عليه السلام ) ، فبرز وهو يقول :
كيف ترى الفجار ضرب الأسواد بــالمـشــرفــي والقـنــا المـســدد
يــذب عــن آل الـنــبـــي أحــمـد
ثم قاتل حتى قتل رضوان الله تعالى عليه ..(21) .
وقال محمد بن أبي طالب : فوقف عليه الحسين ( عليه السلام ) وقال : " اللهم بيض وجهه وطيب ريحه واحشره مع الأبرار وعرف بينه وبين محمد وآل محمد"(22) .
وروى علماؤنا عن الباقر ( عليه السلام ) عن أبيه زين العابدين ( عليه السلام ) أن بني أسد الذين حضروا المعركة ليدفنوا القتلى وجدوا جونا بعد أيام تفوح منه رايحة المسك (23) .
أقول: من عظمة ثورة أبي عبدالله الحسين عليه السلام أنها أممية ولا توجد فيها فوارق طبقية أوعنصرية وما شابه ذلك حيث أننا لاحظنا أن جنسيات الأنصار كانت من شتى البلاد المختلفة منهم من ينتمي إلى قبيلة في الحجاز ومنهم من اليمن ومنهم من أفريقيا وفيهم الصحابي الذي صحب رسول الله(ص) وفيهم الزنجي والتركي وفيهم العبد والحر والموالي والأسود والأبيض وهذه التركيبة الأممية قضت على الفوارق الطبقية والعنصرية في واقعة كربلاء..
ولو لاحظنا أيضا أن من جملة أهداف الإمام الحسين(ع) هو تحرير الإنسان من قيود التبعية والعبودية لذلك حشد في ثورته المقدسة كافة الشرائح الإنسانية لتعطي أبعاد عالمية كبرى ..
7- موقف الحر بن يزيد الرياحي
هو الحرّ بن يزيد بن ناجية بن سعد من بني رباح بن يربوع من أصحاب الحسين (عليه السلام).
كان من رؤساء الكوفة، شريفاً في قومه جاهلية و إسلاماً، أرسله ابن زياد من القادسية أميراً على ألف فارس يستقبل بهم الحسين(ع) لئلاّ يدخل الكوفة. و جعله ابن سعد يوم عاشوراء على ربع تميم و همدان.
وهو من جملة شهداء عاشوراء الأجلاّء. وكان من الشخصيات البارزة في الكوفة، دعاه ابن زياد لمقاتلة الحسين(ع) وانتدبه على ألف فارس. ويُروى أنّه لمّا خرج من قصر الإمارة لهذه المهمّة نودي من خلفه: أبشر يا حرُّ بخير. وهذه كانت بداية الخاتمة الحسنة .(24)
والحر أول خارج على الحسين (عليه السلام) تشمله هذه العناية فيحظى بالسعادة الأبدية التي ليس فوقها سعادة.
وفي يوم عاشوراء وبعد أن صف كل من الحسين (عليه السلام) وابن سعد جيشه للحرب، وبعد خطب سيد الشهداء وأصحابه أقبل الحر على ابن سعد قائلا: أصلحك الله أمقاتل أنت هذا الرجل؟!
فقال: إي والله قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الايدي.
قال: فما لك في واحدة من الخصال التي عرض عليكم رضاً؟
فقال: أما والله لو كان الأمر لي لفعلت ولكن أميرك قد أبى. قال الراوي: وقد انفر الحر لمفرده في الخيمه ومنع أن يدخل علي أحد من أفراد الجيش ثم خرج وأخذ بدنوا من معسكر الحسين قليلا قليلا .. فقال له المهاجر بن أوس الرياحي: ما تريد يا بن يزيد؟ أتريد أن تحمل؟
فسكت، وأخذه مثل العرواء (الرعدة من البرد والانتفاض).
فقال له يا بن يزيد: إن أمرك لمريب، وما رأيت منك في موقف قط مثل شيء أراه الآن، ولو قيل لي من أشجع أهل الكوفة رجلاً ما عدوتك، فما هذا الذي أرى منك؟
قال: إني والله أخير نفسي بين الجنة والنار ووالله لا أختار على الجنة شيئاً ولو قطعت وحرقت. . (25)
8- قصة توبة الحر العجيبة
ذكر السيد ابن طاووس رحمه الله: ثم ضرب الحر الرياحي فرسه قاصداً إلى الحسين (عليه السلام) ويده على رأسه وهو يقول: اللهم إليك تبت فتب عليّ فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد بنت نبيك. (26)
وسلّم على الحسين وقال: جعلني الله فداك يا بن رسول الله، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وسايرتك في الطريق، وجعجعت بك في هذا المكان، والله الذي لا إله إلا هو ما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضت عليهم أبداً، ولا يبلغون منك هذه المنزلة، وقلت في نفسي لا أبالي أن أصانع القوم في بعض أمرهم ولا يظنون أني خرجت من طاعتهم، وأما هم فسيقبلون من الحسين هذه الخصال التي يعرض عليهم، ووالله إني لو ظننتم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك، وإني قد جئتك تائباً مما كان مني إلى ربي، ومواسياً لك بنفسي حتى أموت بين يديك، أفترى لي توبة؟
قال: نعم، يتوب الله عليك، ويغفر لك، فانزل.
قال: أنا لك فارساً خير مني راجلاً، أقاتلهم على فرسي ساعة وإلى النزول يصير آخر أمري.
قال: فاصنع ما بدا لك. (27)
وبعد أن انحاز الحر وانضم إلى معسكر الإمام الحسين(ع) وأعلن توبته طلبالحر الرخصة من الحسين(ع) أن يقدم الموعظة إلى أولئك الأصلاف لعلهم أن يغيروا موقفهم ويبيحوالماء لذرية رسول الله(ص) فتوسطهم وقال: أيها القوم لأمّكم الهبل والعبر، إذ دعوتم سبط نبيكم الحسين بن علي حتى إذا أتاكم أسلمتموه، وزعمتم أنكم قاتلوا أنفسكم دونه ثم عدوتم عليه لتقتلوه.
أمسكتم بنفسه، وأخذتم بكظمه، واحتطتم به من كل جانب، فمنعتموه التوجه في بلاد الله العريضة حتى يأمن ويأمن أهل بيته، وأصبح في أيديكم كالأسير لا يملك لنفسه نفعاً، ولا يدفع ضراً وحلأتموه ونساءه وصبيته وأصحابه عن ماء الفرات الجاري الذي يشربه اليهودي والمجوسي والنصراني، وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه، وها هم قد صرعهم العطش، بئسما خلفتم محمداً في ذريته، لا سقاكم الله يوم الظمأ إن لم تتوبوا وتنزعوا عما أنتم عليه من يومكم هذا في ساعتكم هذه.
فحملت عليه رجالة ترميه بالنبل، فأقبل حتى وقف أمام الحسين. (28)
ويظهر أن مجيء الحرالشهيد إلى معسكر الحسين (عليه السلام) كان قبل بدء الحرب، وإن كان السيد ابن طاووس (رحمه الله) يرى أن رجوعه كان أثناء الحرب، وبعد مقتل جماعة من أصحاب الحسين (عليه السلام) (29)
مبارزة الحر وبطولته وشهادته
وبعد الحملة الأولى ومقتل أكثر أصحاب الحسين (عليه السلام) خرج الحر إلى الحرب وخلفه زهير بن القين يحمي ظهره، فقاتل هو وزهير قتالاً شديداً، فكان إذا شد أحدهما فإن استلحم شد الآخر حتى يخلصه ففعلا ذلك ساعة. (30)
وعن يزيد بن سفيان الثغري من بني الحرث بن تميم قال: أما والله لو رأيت الحر حين خرج لأتبعته السنان، قال: فبينا الناس يتجاولون ويقتتلون، والحر بن يزيد يحمل على القوم مقدماً ويتمثل بقول عنترة:
ما زلت أرميهم بثغرة نحره ولبانه حتى تسربل بالدم
وإن فرسه لمضروب على أذنيه وحاجبيه وإن دماءه لتسيل فقال الحصين بن نمير التميمي ليزيد بن سفيان: هذا الحر الذي كنت تتمنى قتله. قال: نعم، وخرج إليه فقال له: هل لك يا حر في المبارزة؟
قال: نعم قد شئت، فبرز له.
وكان عند القتال يرتجز ويقول: (31)
إنّـي أنـا الحـرّ ومأوى الضيف أضـربكم ولا أرى مــن حـيـفِ
أضرب في أعـنـاقـكم بـالسيفِ عن خير من حلَّ بأرض الخي
قال الشيخ كاشف الغطاء (رحمه الله):
وبقي الحر يدير رحى الحرب وحده، ويحصد الرؤوس، ويخمد النفوس، حتى قتل في حملته الأخيرة ثمانين فارساً من أبطالهم، فضج العسكر، وصعب عليهم أمره، فنادى ابن سعد بالرماة والنبالة فأحدقوا به من كل جانب حتى صار درعه كالقنفذ، هنالك اتقدت نار الغيرة في كانون فؤاده، ووقف وقفة المستميت فنزل عن فرسه وعقرها لأنها لم تستطع الاقتحام من كثرة السهام، وأخذ يكر عليهم راجلاً إلى أن سقط على الأرض وبه رمق، فكر عليه أصحاب الحسين (عليه السلام)، واحتملوه حتى ألقوه بين يدي الحسين (عليه السلام)، فجعل الحسين يمسح الدم والتراب عن وجهه ويقول: ما أخطأت أمك إذ سمتك حرا، أنت الحر في الدنيا والحر في الآخرة ثم استعبر (عليه السلام). (32)
من كرامات الحر الرياحي الخالدة
مما يذكرأن الحسين(ع) عصّب رأس الحر بمنديل. وبعد واقعة الطف دفنه بنو تميم على بعد ميل من قبر الحسين(ع)، حيث قبره الآن خارج كربلاء في المنطقة التي كانت تسمى قديما بـ"النواويس" (33)
وممّا ينقل أنّ الشاه إسماعيل الصفوي حفر قبر الحر ووجد جسده سالماً،ولما أراد فتح العصابة التي على رأسه سال دمه، فأعادوها كما كانت. ثم بنوا قبّة على قبره.(34)
---------------------------------------------
1- تاريخ الطبري 6/225.
2- تاريخ الطبري 6 / 243 .
3- مقتل الحسين للمقرم: 306.
4- الإقبال: 46 - مقتل الحسين للمقرم: 306
5- إبصار العين: 114
6- تهذيب الكمال : 22 / 102 ، الرقم : 4400 .
7- تاريخ الطبري : 3 / 318 بتفاوت ، راجع الكامل : 4 / 60 .
8- تاريخ الطبري : 3 / 373 ، وفي الكامل 4 / 67
9- الاختصاص للشيخ المفيد: ص 2
10- تاريخ الطبري: 6234.
11- مقتل الحسين للمقرم: ص 301.
12- تاريخ الطبري: 6/ 252
13- الإصابة لابن حجر : 6 / 96 ، الرقم 7978 .
14- تاريخ الطبري : 3 / 315 ، الكامل : 4 / 58 ، الإرشاد : 2 / 92 .
15- سورة الأحزاب : 23 .
16- الإرشاد : 2 / 96 بتفاوت في بعض الكلمات .
17- راجع رجال الشيخ الطوسي : 103 ، الرقم 1019 .
18- تاريخ الطبري : 3 / 279 .
19- تاريخ الطبري : 3 / 329 .
20- الإقبال: ص 47
21- راجع البحار : 45 / 23 ، واللهوف : 163 .
22- تسلية المجالس : 2 / 292 - 293 .
23- البحار : 45 / 23 ، ونفس المهموم : 264
24- قاموس الرجال 3: 103، أمالي الصدوق: 131.
25- إبصار العين: 143.
26- اللهوف: 43.
27- المصدر السابق: 144
28- تاريخ الطبري: 6: 245.
29- اللهوف: ص 44.
30- تاريخ الطبري: 6: 252.
31- بحار الأنوار: 45: 14
32- مقتل الحسين ص40.
33- الحسين في طريقه إلى الشهادة: ص 97.
34- سفينة البحار 1: 242