الشهيد القسّاميّ وافي الشعيبي: المطارد الذي أنهك كتيبة كاملة
رام الله – خاص :
فجر الثاني عشر من كانون الثاني بعد العام الجديد ، المكان قرية قراوة بني زيد غرب مدينة رام الله ... قوات كبيرة من جيش الاحتلال تحاصر منزل ماجد عرار ..
"على جميع القاطنين في المنزل مغادرته فوراً ..." ، راحوا يصرخون عبر مكبرات الصوت ... خرجت عائلة عرار كاملة ... وافي الشعيبي و عبد الله الديك رفيقا رحلةٍ طويلة حطّت بهم ركابها في قبو هذا المنزل ... نظر أحدهم للآخر ، عرفا أنّ وقت المواجهة الحقيقية قد حان ، نداءات متكرّرة ، لم يكن من قِبَل الشابين أي استجابة ... على العكس ... بدأوا بالهجوم من تلقاء أنفسهم ... على الأقل هذا ما كان يبحث عنه وافي منذ مدة ... راحوا يطلقون النار باتجاه القوات المدرعة ، ثم زادوهم بعبوة ناسفة ... جنّ جنون عشرات الجنود الذين اصطفوا على أهبة الاستعداد علهم ينتهون من كابوسٍ يدعى وافي الشعيبي يطاردهم منذ أكثر من سبعة أعوام ... بدأوا بالتراجع مسرعين ... لحظات قليلة بعد ذلك كان المنزل مجرد أكوامٍ من الحجارة و القذائف ... و كان وافي و عبد الله مجرد جثتين على قارعة المكان ..
مسألة انتظار فقط :
في البلدة المجاورة ، كفر عين ، الساعة قد تجاوزت العاشرة و النصف و حشدٌ من الشبان اصطفوا على إحدى التلال المطلة على قراوة بني زيد ، حتى اللحظة لم يستطع أحدٌ تحديد هوية الشهيدين ، سوى بعض الهمس باسم عبد الله الديك ... عبد الباسط الشعيبي أخو الشهيد وافي كان في المكان ، "على الفور قلت وافي هو الشهيد الثاني ... لقد كانوا روحاً واحدة في جسدين ... لم يفترقا منذ أعوام ... حيثما حلّ عبد الله سيكون هناك وافي بالتأكيد ... و مسألة استشهادهما كانت منتظرة ... بادرت بالاتصال على سيارة الإسعاف التي حملت الشهيدين إلى مركز الطوارئ في مدينة سلفيت و تأكدت بنفسي" ، يقول عبد الباسط ...
"بعد أقلّ من عشر دقائق كان الخبر على أبواب بيت أبو صافي والد الشهيد ... واحد و ثمانين عاماً و تجربة تعايش مريرة مع زيارات الكابتن رياض و كتيبته لمنازل العائلة ... كانت كفيلة بأن يكون الخبر قريباً من العادي ..." .
"استشهد وافي ، و ماذا في الأمر ، كلنا على هذا الطريق إن شاء الله ... كانت هذه أمنيته منذ سنوات ... و قد نالها ... الحمد لله على كلّ شيء ..." هكذا عبّر أبو صافي ، شيخٌ في الثمانين من عمره عن مشاعره حين تلقّى خبر استشهاد ولده الأصغر وافي ..
على الهاتف ، لم تكن تكفي الدقائق لسرد قصة عائلة الشعيبي مع فرقة الموت التي طاردت ولدهم منذ سنوات ، و أعدمته منذ أيام في قرية مجاورة ... "آمل أن تكون (إسرائيل) و جيشها قد ارتاحوا الآن ... أخي على الأقل نال ما كان يتمنى منذ صغره ، لا أعرف إن كانت (إسرائيل) قد قضت على الإرهاب كما تدعي عندما قتلت وافي و صديقه..." ، بدأ عبد الباسط الحديث بصوتٍ ملؤه الفخر ...
"كل الدنيا بتعرف وافي" ..
"من هو وافي ؟" سألناه ... ضحك ، "كلّ الدنيا بتعرف وافي ... عندما كان في الثامنة عشرة قرّر الانخراط في العمل الجهاديّ ... لا أريد زواجاً ، لا أريد بيتاً ، لا أريد عائلة و لا أطفالاً ... لا أريد من هذه الحياة سوى المقاومة و الاستشهاد ، هذه هي كلماته دوماً ... ولد في الثاني من شباط عام 79 ، لم يكمل عامه السادس و العشرين ، كانت قذائف اليهود أسرع إليه ... منذ أكثر من سبع سنوات أصبح مطلوباً لدى قوات الاحتلال ، و خلال هذه الفترة لم تعدم (إسرائيل) وسيلة للوصول إليه إلا و اتبعتها و لكن دون جدوى ... كانت لديه قدرة هائلة على التخفي و الاختباء ... و دائماً برفقة عبد الله الديك .." .
يقول عبد الباسط أبو أدهم : "في الحقيقة بدأ تفكير وافي بالعمل الوطني منذ الانتفاضة الأولى ، عندما أصيب في إحدى المواجهات برصاصة في وجهه ، يومها كتبت شهادته ، لكنها تأخرت سنوات ..." .
سبعة أخوة و ثماني أخوات لم يستطع أحدهم إقناعه الالتفات لنفسه و مستقبله .. "كنا دائماً كلما رأيناه نطلب منه أن يهدأ و أن يفكر في الزواج و الاستقرار ، قمنا ببناء بيتٍ له رغماً عنه ، لكنه أبداً لم يعدل عن رأيه ... (هاي الحياة مش إلي) ، هكذا يقول دائماً ..." يتابع الأخ أبو أدهم ...
مسلسل العائلة مع الكابتن رياض :
بيوت الأخوة و بيت الأهل ، و منازل الأخوات و الأعمام و العمات و الجيران و حتى أنسباءهم ..كلها كانت هدفاً مستمراً لحملات المداهمة الليلية من قبل جنود الاحتلال أثناء عملية البحث عن وافي ... و ما كاد أبو أدهم يبدأ بسرد عمليات المداهمة الأولى حتى يتذكر مرات و مرات قد سبقتها .. "في الحقيقة هذه الزيارات لم تكن تعدّ و لا تحصى ، حتى أنّ أبنائي و صغار أخوتي صاروا يستقبلون الجنود و الكابتن رياض كما يسمّي نفسه على أبواب البيوت ..." .
بدأت عمليات التنكيل بالعائلة تقريباً منذ سنة و ثلاثة أشهر عندما اعتقل وافي في قرية قراوة بني زيد أيضاً ، و عندها تعرّض لتعذيبٍ قاسٍ أدّى إلى كسرٍ في يده اليسرى ... و في السجن لم يقدّم له أيّ نوعٍ من العلاجات ، بعد ثلاثة أشهر ، أطلق سراحه و قال له الجنود : "اذهب و تعالج في رام الله ..." .
بعيد الإفراج عنه بقليل ، عاد الشهيد وافي لاستئناف نشاطه ضمن كتائب عز الدين القسام ، كأحد القادة الميدانيين و المسؤولين عن عدّة عمليات في منطقة رام الله بالتحديد ، و عادت مع هذا العمل نشاطات فرقة الكابتن رياض الليلية ضدّ منازل العائلة في قرية دير غسانة .. "في السادس و العشرين من تشرين أول الماضي كانت الزيارة الأولى ... اقتحم الجنود بيتي و بيوت أخوتي جميعاً ، حتى منزل الوالد كذلك ، و قاموا باعتقالي و أخوتي و والدنا أيضاً ، و اقتادونا باتجاه معسكر عوفر و هناك بدأ التحقيق معنا كلّ على حدة ، و أثناء التحقيق كانوا يهدّدونا بقتل وافي و بإحضاره لنا في كيسٍ أسود ... قال لهم والدي (شو ما يطلع بأيدكم اعملوا .. مش فارقة معنا) ... بعد 18 ساعة أطلق سراح الأبناء السبعة و والدهم المسنّ" ..
بعد أقلّ من أسبوعٍ استيقظ الأطفال على أصوات اقتحام و راحوا يصرخون .. "إجا الكابتن رياض و جنوده ..." ، يتابع أبو أدهم ،.. "دخلوا منازل أخوتي جميعها و كسروا كلّ ما وجدوه في طريقهم ، الأثاث و الخزائن و الزجاج .. حتى رؤوس الأغنام التي أمتلكها فتحوا أبواب زريبتها و فتشوها مما أدّى إلى فرار القطيع ... و كان ذلك قرابة الساعة الواحدة ليلاً ، إذ أنهم كمنوا في تلك الليلة بالقرب من منازلنا و انتظروا حتى تأكدوا من نوم الجميع و عندها قرّروا الاقتحام ..." ، في هذه المرة اعتقل الجنود من الأخوة عبد الباسط و محمود و أحمد و عبد اللطيف ، و كذلك ابن شقيقتهم أحمد صباح (17 عاماً) ، و كذلك صهر العائلة صابر شفيق و شاب آخر من البلدة" ...
بعد ثمانية أيام أفرج عن الأخوين عبد الباسط و محمود ، و ظلّ الباقي رهن الاعتقال ، حيث لا يزال صابر في تحقيق المسكوبية بينما الأخ أحمد حُكِم عليه ثلاثة شهور ، و تنتظر العائلة الإفراج عنه بعد أيامٍ إذا لم تقم إدارة السجن بتجديد الاعتقال الإداري له ، أما ابن شقيقتهم فقد واجه حكماً بالسجن لأربعة أشهر أيضاً ... و في الوقت ذاته وجهت سلطات الاحتلال تهمة حيازة سيارة مسروقة للأخ عبد اللطيف و ترك 80 يوماً في مركز التحقيق في المسكوبية و لا زال حتى اليوم ينتظر المحاكمة" ...
مناسبة للاستهزاء بالجنود :
بدا أبو أدهم و كأنّه يضحك عند تذكّره لحملات الغزو على بيوتهم كما أسماها ... "شيء لا يتصوّره عقل ..." قال ، "قبل أقلّ من شهرٍ حضروا كعادتهم و لكن الساعة التاسعة صباحاً ، رحت استهزئ بهم .. قلت للكابتن رياض (طيب ليش ما بتيجوا بالنهار دايماً ، أليس ذلك أفضل بالنسبة لكم من القدوم ليلاً في البرد) ... راح يصرخ في وجهي بينما الجميع يضحك : (أنتم إرهابيون متورطون ... قتلة ، سنهدم كلّ بيوتكم ، سنشردكم ، لن نترك لكم شيئاً تعتاشون منه)" ...
في المرة التالية بعد نحو أسبوعٍ كان بيت الأخ الكبير فيصل "صافي" هو الهدف .. "اقتحموا البيت ، أخذوا كلّ الصور ، حتى صور الأطفال ، و وجدوا مبلغ 400 شيقل و ميدالية ذهب لزوجته ، و كذلك الأجهزة الخلوية ... سرقوا كلّ شيء" .. يضيف أبو أدهم ، "في نهاية تفتيشهم وجدوا ورقةً كتب عليها (أخي فيصل تعليمات لتمديدات كهربائية و هو المجال الذي نعمل فيه) ، صاح الكابتن هذه خطة إعداد متفجرات ، قلبوا بيوتنا جميعاً رأساً على عقب ... كانوا يصرخون (أين مغاور الأسلحة ؟ أين تصنعون المتفجرات ؟ أين يخبئ وافي سلاحه ؟)" .
استمرت هذه الزيارات حتى قبل استشهاد وافي بأسبوع ... في المرة الأخيرة اقتحموا منزل الوالد أبو صافي بعد فرض منع التجول المشدد على القرية ...كالعادة تم تفتيش كافة منازل العائلة بينما طرد الأطفال و النساء و الرجال تحت المطر لمدة تزيد عن الساعة .. و عندما فرغوا من بيت أبو صافي ... كانوا قد بحثوا حتى في الصحون كما قال الشيخ المسنّ ، "لمن هذه القمصان ... لمن هذه الملابس ..." صرخوا في وجه الأم ذات الستين عاماً ، ... " هذا لوافي .. و هذا لوافي ...كلّ شي هون لوافي ..." يقول أبو صافي : "كانت تصرخ بوجوههم كما فعلوا كي تزيد من قهرهم ... و عندما انتهوا ... رحنا نضحك أنا و زوجتي ، قلت لهم (ماذا تشربون شاي أم قهوة ؟)" .
العمّ أبو صافي ما هو شعورك اليوم و قد فقدت ابنك الأصغر ؟ ، أجاب : "الحمد لله ، لم يتغيّر علينا شيء ، طوال حياة وافي كانت روحه معلقة بالجنة ... أتمنى أن يكون قد وصل في النهاية ..." .... بجانبه جلس الصغير أحمد (4 سنوات) ، "حميدو" كما يناديه الجميع ، راح ينادي على الهاتف : "بدي مسدس ... رايح أطخ الكابتن رياض و العملاء اللي اغتالوا عمي وافي...".