الكلب لم يعض احدا
حيدر الجراح
شبكة النبأ: اول جريدة اشتريتها كنت في السابعة من عمري،، حين ارسلني والدي الى كشك الجرائد الوحيد الذي اذكر وجوده في قضاء الحي احد اقضية محافظة واسط العراقية، كان والدي يريد ان يتابع خبر وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، الذي تزامنت وفاته مع ولادة اصغر اخوتي واختار له والدي اسم جمال تيمنا بالرئيس المصري زعيم القومية العربية وقتها، وايضا القائد المهزوم في حرب العام 1967.
لا اذكر اسم الجريدة وقتها، وما بقي في الذاكرة منها هو صورة الزعيم التاريخي، ورائحة الورق والحبر الاسود، وهي رائحة ظلت تلازم انفي طيلة سنوات طويلة، قبل ان تتعدد الروائح وتعلق هي الاخرى من جديد، رائحة اول كتاب واول مجلة واول جريدة اشتريتها لي شخصيا.
لم نكن نملك تلفازا في تلك السنوات كي نستطيع ان نتابع الاخبار من خلاله، ولم تكن الاخبار في تلك السنوات هي نفسها الان، وهذا شيء مؤكد. كانت الصحف والمجلات هي النافذة، نافذة من لا يمتلكون تلفازا على العالم، وكانت معدلات القراءة عالية وليس كما هي الان.
كانت الصحف تمتليء بالاخبار اليومية، وكانت المجلات التي وعيت عليها، الاسبوعية منها تتابع هذه الاخبار بالتحليل والاستنتاج، وكانت المجلات الشهرية نوافذ اخرى نطل منها على العالم. كنا نتبارى نحن اصدقاء المراهقة بالحصول على المجلات الجديدة، وكنا نرسل الرسائل الى دولة الصين او الاتحاد السوفييتي لارسال مجلاتهم الدعائية، وكان ساعي البريد يصل الى منزلنا ويرمي مظروفا مكتظا بالمطبوعات، تفوح منه رائحة الورق المصقول والحبر بجميع الوان الطيف.
كانت مجلة العربي الكويتية شحيحة النسخ في المكتبات لا يحصل عليها الا كل ذي حظ عظيم. كان صديقي وجاري قيس يحصل عليها بواسطة والده عن طريق احدى المكتبات، كان يسمح لي بقراءتها واعادتها اليه. كنت اطمح ان اضمها الى مكتبتي الصغيرة الناشئة، كان صديقي يحب كل جديد في الاغاني الغربية، وكانت وقتها فرق شهيرة مثل فرقة (بوني ام) و(فرقة آبا) وكان هناك (ديمس روس) و (تينا جارلس) وغيرها من الاسماء، كان الاتفاق الذي توصلت اليه مع صديقي هو كاسيت واحد مقابل عدد من مجلة العربي رغم فارق السعر بينهما.
تلك السنوات والتي تلتها، كنا نتناقل الاخبار التي نقرأها في الصحف اليومية، وكانت تلك المناقلات نوع من التباهي، فالجميع يريد ان يكون مثقفا في نظر زملائه وابناء منطقته واصدقاء دراسته.يومها لم نكن نعرف شيئا عن الخبر الصحفي او القصة الخبرية او التقرير او التحقيق،، ولم نكن نعرف يومها عن تلك القاعدة في الصحافة والتي تقول (اذا عض الكلب رجلا) فهو ليس بخبر،، بل الخبر هو ان يعض الرجل الكلب.
في سنوات الحجب والمنع والاقتصار على الصحف الحكومية فقدت تلك الصحف بريقها في اعيننا، وخاصة الصفحات الاولى، وتراجع دورها، واصبحنا نتابع الصفحات الداخلية التي كنا نعتقد انها اكثر غنى من تلك الصفحات.
تسيدت صور القائد الضرورة واخبار زياراته ولقاءاته الصفحات الاولى لصحفنا الهزيلة، واصبحت تلك الصحف تنشر مايثه التلفاز الحكومي في الليلة السابقة. الان اصبحت الصحف لتغليف الاغراض او لمسح الزجاج او سفرة للطعام مع استبعاد الصفحة الاولى من الاستخدام لضرورات امنية.
بعد العام 2003 حدث زلزال غير مسبوق من انتشار للصحف اليومية والاسبوعية والمجلات بكافة انواعها واشكالها، وكنت تحار وانت امام المعروض من تلك العناوين، نشأت مع تلك الصحف ظواهر جديدة وتقاليد غير معروفة على الاقل بالنسبة للعراقيين بسبب عقود المنع والحجب والمصادرة.
قسم من تلك الصحف توقفت عن الصدور وقسم اخر لازال مستمرا اضافة الى اصدارات جديدة نتفاجأ بها بين وقت واخر، لاشيء من تلك القواعد الصحفية القديمة، لا سبق صحفي ولا تغطيات تحقق النقاد الكامل للصحف او تجعلها حديث الساعة. فالانترنت ترك بصمته الواضحة على الاخبار في الصفحة الاولى اضافة الى ما تأتي به شاشة التلفاز كل ليلة، وبسبب لوضع الامني تنشر معظم الاخبار بعد يوم على بثها ومعرفتها من قبل جمهور المشاهدين.
والاخبار هي نفسها بين صحيفة واخرى، مع بعض الفروقات البسيطة التي لا تقدم او تؤخر في مضمون الخبر، وانتشرت في الصحف الاخبار الملفقة والاكاذيب والتصريحات المتضاربة ونفي التصريحات، كل هذا وانت كنت قد سمعت بهذه الاخبار في الليلة السابقة، او قبل ليلتين.
كل يوم حين امر على بسطية بائع الصحف اتذكر تلك القاعدة الشهيرة حول الرجل الذي يعض الكلب، اتلفت حولي واقول في سري الكلب لم يعض احدا.
شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 3/تموز/2012 - 12/شعبان/1433