بريطانيا والاتحاد الأوربي... انفصال مؤجل
كمال عبيد
شبكة النبأ: يبدو أن مؤشرات الانفصال البريطاني من الاتحاد الأوربي أظهرت ما دأبت به الحكومة البريطانية في المدة الأخيرة من مماطلة سياسية تهدف للخروج من الوحدة الأوروبية، او الحصول على موقع رئيسي في هذا الاتحاد، خصوصا بعدما هينمة القوى الألمانية والفرنسية عليه سياسيا واقتصاديا في الفترة الاخيرة، وهو ما جسده تعهد رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون بداية العالم الحالي بالدعوة إلى استفتاء عام حول مستقبل عضوية بلاده في الاتحاد الأوروبي إذا فاز حزب المحافظين الذي يتزعمه بالانتخابات العامة المقررة عام 2015، وحذّر من أنها ستترك الأخير ما لم يتغير تغير راديكالي، وهذا الامر يعني اعتراف على مستوى عال بان المحاولة التي تبذلها المملكة المتحدة نحو الانفصال من الاتحاد تبدو جادة أكثر من أي وقت مضى.
فلطالما كانت بريطانيا حريصة على الاحتفاظ بمسافة فاصلة بينها وبين جيرانها الأوروبيين، إذ كانت المملكة المتحدة تحتل ادوار عالمية مهمة على المستويات كافة، لكن المستجدات والتطورات التي طرأت على النظام العالمي في الماضي القريب، بصعود فرنسا وألمانيا لاحتلال موقع القوة العظمى على مستوى الاتحاد الأوربي، دفع المملكة المتحدة بانتهاج سياسية جديدة تتوافق مع التطورات الجديدة على الأصعدة كافة، وذلك باعتماد إستراتيجية الانفصال لضمان تحقيق مصالحها الاقتصادية والإستراتيجية والسياسية مستقبلا، ويتضح أن الاتحاد يعتبر بالنسبة لكثير من البريطانيين رحلة لا تتوقف في اتجاه واحد وينحسر فيه السيادة الوطنية كما أن مصير البلاد تحدده قوة أوروبية عظمى.
ولعل مواقف دول الاتحاد الأوربي السياسية والتي تمثلت بالإستراتجية العسكرية التي انتهجت في أفريقا مؤخرا، وتفاقم أزمة اليورو المستدامة من أهم العوامل التي تشجع بريطانيا على التلويح بالانفصال، فضلا عن مساعي هذه الدول لإعادة هيمنتها الدولية، بالإضافة إلى الخوف البريطاني من تدخل الأوروبيين في شؤونهم الداخلية التي يفضلون تسويتها فيما بينهم، دون أن ننسى الأسر الحاكمة التقليدية في أوروبا التي كانت دائماً تناوئ بريطانيا، وغيرها من الأسباب والدوافع الأخرى، التي قد تمهد لانفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوربي في المستقبل القريب.
لكن في الوقت نفسه اثار هذا الامر جدلا كبيرا بين الدول الأوروبية، حيث اختلفت الآراء وتعددت الانتقادات بشأن خروج المملكة المتحدة من اتحاد القارة العجوز خلال المدة المقبلة، ولم تقتصر ردود الفعل على أوروبا، فقد حذرت الولايات المتحدة بريطانيا من أنها ستفقد التأثير الدولي إذا خرجت من الاتحاد الأوروبي، حيث يتعلق الجدل السياسي الجديد والقديم في بريطانيا بخصوص الاندماج مع أوروبا بجوانب رمزية بقدر ما يتعلق بالجوانب الجوهرية.
حيث يرى البعض من فوائد استمرار العضوية الأوربية دعم الاقتصاد البريطاني بصورة كبيرة من العضوية في السوق الأوروبية المشتركة، في المقابل يرى بعض منتقدي العضوية في الاتحاد الأوروبي إن هذه الدراسات أغفلت نقطة أساسية هي فقد السيادة الوطنية التي يعتبرونها أهم من المسائل الاقتصادية، مما وضعها أمام خيارات صعبة وبدائل حالمة.
ويرى معظم المحللين في الوقت الحالي هناك صعوبة متزايدة تواجه بريطانيا في البقاء في منتصف المسافة بين داخل الاتحاد الأوروبي وخارجه، فمع استمرار منطقة اليورو في بناء المزيد من المؤسسات للتحكم في العملة، والحد من الدين فإن بريطانيا ستتعرض للمزيد من التهميش، في حال استمرت في عضويتها، أما إذا قررت الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، فإنها ستكون أقل نفوذاً في أوروبا عما هي عليه الآن.
في حين اعتبر الكثير من المراقبين إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيكون كارثة رغم الخلافات القائمة بشأن الحد من مكافآت المصرفيين والتي تزيد من عزلة بريطانيا في الاتحاد، ويمكن أن يحدث انقسام هزة عنيفة سياسيا وماليا في معظم الدول الاتحادية الاوربية المضطربة اقتصادية بسبب ازمة اليورو واتفاع مستوى التضخم والبطالة في أغلب تلك البلدان الأوربية. كما سيشكل إلغاء الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان خطوة مثيرة للجدل وقد لا يكون سهلا، فمنذ وقت طويل تنتقد بعض الجهات البريطانية المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان التي تطبق الاتفاقية قائلين انها تتعدى على السيادة البريطانية.
حيث أن بريطانيا تخاصم الإتحاد الأوروبي حول مكافآت المصرفيين، وقد أطلقت الحكومة البريطانية تحديا قانونياً ضد خطط الاتحاد الأوروبي الحد من مكافآت المصرفيين، بموجب قانون مصادق عليه من الاتحاد الأوروبي فإن المدفوعات للمصرفيين سوف لن تتجاوز الرواتب السنوية، ويمكن أن تكون أعلى إذا وافق المساهمون.
ويعتقد المستشار البريطاني جورج أوزبورن أن بروكسل قد ذهبت بعيداً جداً في الإصلاحات التي تهدف إلى تجنب الفوضى المصرفية التي ساهمت في الأزمة المالية، لندن هي أكبر قطاع مالي في الاتحاد الأوروبي، وتعتقد الحكومة أن فرض سقف سيضر بالصناعة ويدفع المواهب والمال إلى مكان آخر.
كما يعتقد محللون آخرون أنه إذا ما قمت بوضع حد للمكافآت، فهذا سييثير عاصفة من الاستياء لدى العاملين في هذه الصناعة. المالية عموما تلعب دوراً هاماً في الاقتصاد الصناعي الحديث. من المهم للسياسيين التعرف على ما لديهم في الواقع، وليس علاج قطاع المال كغيره من الصناعات الوطنية الهامة مثل السيارات على مدى السنوات الثلاثين الماضية.
سيما وان الحكومة البريطانية رفعت دعوى أمام محكمة العدل الأوروبية، في سبيل معالجة أقوى كبح عالمي لأجور المصرفيين، لكن يرى منتقدون أن الهجوم القضائي للحكومة البريطانية بقيادة المحافظين على بروكسل، يهدف إلى وقف تسرب أنصارها الأساسيين نحو حزب الاستقلال المشكك في أوروبا.
كما بات نزاع جبل طارق الحدودي نقطة حساسة بين دول الاتحاد الأوربي، وقد وصل فريق من مفتشي الاتحاد الاوروبي الى جبل طارق للتحقيق في نزاع حدودي وتر العلاقات بين بريطانيا واسبانيا، وفي نزاع بدأ حول مياه الصيد قدمت كل من بريطانيا وجبل طارق شكوى للاتحاد الاوروبي جاء فيها ان اسبانيا تغالي في القيود المفروضة على الحدود مما يؤدي الى تعطيل أفواج العمال والسياح الذين يدخلون ويخرجون من منطقة جبل طارق وهي أرض بريطانية واقعة عند الطرف الجنوبي لاسبانيا.
وقالت المفوضية الاوروبية الذراع التنفيذية للاتحاد الاوروبي ان ستة مفتشين من الجمارك والجهات القضائية ومكتب مكافحة الاحتيال يستجوبون الناس ويراقبون اجراءات الجمارك والهجرة عند الحدود، ومنطقة جبل طارق التي تريد اسبانيا استعادة السيادة عليها بعد ان تنازلت عنها لبريطانيا بموجب معاهدة أبرمتها منذ ثلاثة قرون لا تدخل في منطقة شينجين التي لا تستوجب تأشيرات دخول وتضم 26 دولة اوروبية ومن ثم هناك قيود مطبقة على حدودها.
من جانب آخر من جهته قال نيك كليج، نائب رئيس الوزراء البريطانى وزعيم حزب الديمقراطيين الأحرار إن الشريك الأصغر فى الائتلاف الحاكم فى بريطانيا، سيواصل تبنى قضية البقاء فى الاتحاد الأوروبى، وتابع كليجفى مؤتمر للحزب فىجلاسكوب اسكتلندا أن حزب "الديمقراطيين الأحرار يقع على عاتقه الدفاع عن المصلحة الوطنية، سنكون نحن هذا الحزب".
وقال كليج "بالطبع إن الاتحاد الأوروبي في حاجة إلى إصلاح- لا أحد يقول إنه ليس بحاجه إليه، ولكننا لا يمكن أن نسمح بان يؤدى تحريف الحق والعزلة الكاملة التي يطالب بها حزب استقلال بريطانيا الداعي إلى الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، إلى تعريض الملايين من فرص العمل البريطانية للخطر والانتقاص من مكانة بريطانيا في العالم.
من جهته قال محافظ بنك انجلترا المركزي المنتهية ولايته ميرفين كينغ إن ضعف منطقة اليورو مازال يشكل الخطر الأكبر على التعافي الاقتصادي الوليد لبريطانيا، ودعا كينغ في مقابلة تلفزيونية إلى تبني ‘خطة متوسطة الأمد’ لإعادة الاقتصاد إلى المسار الصحيح قائلا إنه يجب السماح لعوامل الاستقرار الاقتصادي التلقائية بأن تؤتي ثمارها. وتوقع كينغ أن يتعافى إنتاج النفط في بحر الشمال خلال العامين المقبلين، وكان كينغ توقع نمو الاقتصاد البريطاني بوتيرة أسرع وانخفاض معدل التضخم عن النسبة المتوقعة قبل ثلاثة أشهر.
من جانبه استبعد عمدة لندن بوريس جونسون اليوم ان يؤثر انسحاب بلاده من عضوية الاتحاد الأوروبي سلبا على اقتصادها مشددا في المقابل على دعمه لخطة رئيس الوزراء ديفيد كاميرون تنظيم استفتاء بعد انتخابات عام 2015، وقال جونسون في مقابلة مع هيئة الاذاعة البريطانية (بي بي سي) انه لا يتفق مع دعوة وزير الخزانة الأسبق لورد لاوسن وعدد من النواب المحافظين للانسحاب من الاتحاد الأوروبي بشكل فوري، وأضاف ان "منطقة اليورو باتت تتسبب في كثير من المتاعب الاقتصادية علاوة على الميزانية الضخمة التي تنفق في تسيير الاتحاد الأوروبي".
واوضح ان التشريعات الأوروبية التي اعتمدت في العقدين الأخيرين اثرت سلبا على تنافسية الكتلة الأوروبية أمام الاقتصادات الأسرع نموا في العالم، وشدد عمدة لندن على ان الداعين للاندماج الأوروبي يبالغون في التحذير من آثار الانسحاب من المجموعة الأوروبية على الاقتصاد البريطاني واحتمالية فقد الملايين من الوظائف، واعرب عن اعتقاده بأن إيجابيات وسلبيات انسحاب بريطانيا تبدو متوازنة، واستدرك بالقول ان "من يريد التفاوض على مستقبل علاقة بريطانيا بالاتحاد الأوروبي يجب عليه ان يكون مستعدا أيضا للانسحاب من هذا الاتحاد عندما يفشل في تحقيق أهدافه".
من جهة أخرى حذّر وزير الدفاع الألماني، توماس دي ميزيير، بريطانيا من أن مكانتها كقوة عسكرية رائدة قادرة على التأثير على الأحداث خارج حدودها ستتعرض للخطر إذا ما أقدمت على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وقال دي ميزيير في حال تركت بريطانيا الاتحاد الأوروبي، فإن ذلك سيكون بمثابة خيبة أمل كبيرة لنا، وسيضعف حلف الأطلسي ونفوذها داخله، وستكون العيوب أكثر من المزايا بالنسبة لها من وجهة النظر العسكرية.
وأشار دي ميزيير إلى أنه لا يتحدث عن مسائل اقتصادية أو قضايا اجتماعية بل عن الأمن وعن نفوذ بريطانيا خارج حدودها وعن قضية يعتقد أنها تشكل جزءاً من التقليد البريطاني بأن تلعب لندن دوراً مؤثراً في العالم، لكن وجودها خارج الاتحاد الأوروبي سيضعف هذا التأثير ولن يخدم مصالحها، وقال إن ألمانيا ستفقد شريكاً قوياً في التعاون مع الولايات المتحدة وشريكاً عملياً في التعامل مع القضايا الأمنية، في حال أقدمت بريطانيا على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وعليه فإن تلك المعطيات آنفة الذكر تطرح سؤالا موحدا، هل تنسحب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي في المستقبل القريب؟!.
شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 3/تشرين الاول/2013 - 26/ذو القعدة/1434