أبدأ حديثي هذا الشهر، وهو آخر ما أوجهه إلى قراء «العربي» كرئيس لتحريرها، بالتوجه بالشكر والامتنان لحضرة صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد الجابر أمير البلاد، حفظه الله ورعاه، على الثقة التي أولاني إياها بتكليفي برئاسة تحرير مجلة «العربي»، ولما لسموه من فضل وأيادٍ بيضاء أسست وأطلقت هذا المشروع الكويتي الثقافي الكبير - مجلة «العربي»، - لخدمة الثقافة العربية، وفائدة الناطقين بلغة الضاد. لقد كانت رعايته لهذا المشروع، على مدى خمسة وخمسين عاما بلا توقف أو تراجع، سر ما وصلت إليه المجلة من مكانة، وما استمتعت به من ازدهار، وما حققته من نجاح، بما جعلها إحدى منارات دولة الكويت تنشر الآداب والفنون والعلوم في أرجاء البلاد العربية وبين المهاجرين العرب. مثلما تتعاظم التحديات التي تواجه مجلة «العربي» على نحو متصاعد، أرى أن المسئولية عن هذا المشروع الثقافي العربي تنمو على نحو مماثل. ففي مجلة مدعومة حكوميا ليست المعضلة هي البقاء، بل تصبح المهمة مزيجا من مجابهة التنافس ومواكبة التطور. ما يتمناه قراء «العربي» هو أن تلبي متطلباتهم، ولذلك فإن مسئوليتنا بالأساس منذ العدد الأول الذي تسلمتُ فيه مهمة رئاسة تحرير «العربي» في يوليو 1999، قامت على قراءة هذه الحاجات، عبر البريد المباشر أو الدراسات المسحية أو استقصاء آراء المختصين، ومن ثم تحقيق ذلك، وكان هناك في كل يوم تطلعات أكبر، تضاعف حجم المسئوليات، جنبا إلى جنب. فبعد إصدارها في 1958، وتتالي رؤساء التحرير عليها، كان هناك التزام بميراث خلفه رؤساء تحرير «العربي» السابقون. وكان ذلك الميراث، ولايزال، مجسدا في الاهتمام باللغة العربية، والثقافات العربية، المتنوعة والحية، باعتباره الشاغل الأكبر للقائمين على «العربي» منذ إنشائها. حين توسع العالم، واتسعت عيون القراء عبر وسائط أخرى غير الكلمة المطبوعة والصورة المنشورة، نما الاهتمام وتوسع بالعالم، فانطلقت الاستطلاعات المصورة، مثالا، من الوطن العربي، إلى العالم الإسلامي، ثم شملت العالم كله، وما كان سياحة في الجغرافيا أصبح تعمقا في التاريخ والعلوم الأخرى، عبر إثارة قضايا كثيرة. كما نشأت الحاجة إلى التعمق في دراسة القضايا، أو الإبحار في أعمال وسير الأعلام، ويمكن أن تشي الملفات المنشورة، خلال العقد الأخير، والتي كانت تقتصر في الفترة التي سبقت على ملف أو اثنين سنويا، يراها القارئ تتجاوز معدل ملف كل عدد. لأن القراء يهتمون باستطلاع أكثر من وجهة نظر حول شخصية أو قضية. فالميراث الخاص بالتأصيل والعناية بالكتابة باقٍ، ولكن ملاحقة العصر اللاهث بقضاياه تطور. وعبر 55 عاما من إصدار مجلة «العربي»، حدثت تغيرات وتطورات كثيرة حولنا، ولعل الموضوعات الأساسية التي صبغت العقد الأخير، وأسميه عقد التحولات الجذرية، كشف لنا عن جلاسنوست عربي، حرصت في حديثي الشهري على تقديمه، فكانت مقالاتي التي تتناول قضايا الديمقراطية والإصلاح في العالم العربي، والبحث في الثقافة والحضارة بالدول العربية، ولم أنس التعليم لأهميته البالغة، كما كان هناك اهتمام مماثل بالتواصل مع الثقافات الأخرى. ولعلني أتمثل نموذجا غير تقليدي لتلك الثقافات عبر قارة آسيا التي تجسد اليوم خيارا مهما وكبيرًا، وتسعى دول أوربية وأفريقية وأمريكية للتقارب من القوى الآسيوية، خاصة ذات الاقتصادات القوية، في الشرق الأقصى. نحن دعونا للاتجاه شرقا، ذلك الشرق الذي يرتبط معنا تاريخيا وتجاريا وثقافيا وحضاريا، واليوم تحضر الثقافة الشرقية في كل البيوت العربية جنبا إلى جنب مع أدوات التكنولوجيا، ومن المهم التقارب، لا الصراع، الذي لم يعلنه ويكرسه سوى الغرب. ملتقى مجلة «العربي» وقد رأيت أن مجلة «العربي» يمكن أن يمتد دورها خارج إطارها التقليدي، وهو النسخة الورقية، فكان أن أسسنا ملتقى مجلة «العربي» السنوي الفكري الذي يتناول شعارا ليدرس قضاياه التي تنوعت، فكان منها على سبيل المثال: النشر الإلكتروني، والمجلات الثقافية، وحوار المشارقة والمغاربة، والغرب بعيون عربية، والاتجاه شرقا، واللغة العربية، وكان آخرها ملتقى هذا العام عن نصف قرن من الثقافة في الجزيرة والخليج العربي. لقد بدأ هذا الملتقى بندوة موسعة في موسمه الأول، ثم أضيفت إلى برنامجه فعاليات أثرته عامًا بعد عام، منها تكريم المؤسسات والأعلام التي ساهمت بإيجابية في دعم الأفكار الخاصة بكل ملتقى، وأعتقد أننا لم نترك مؤسسة كويتية أو عربية أو دولية، كان لها دور في إحياء وتأصيل الثقافة العربية، إلا وكرمناها، وهو تكريم رمزي ممثل بدرع يحمل شعار الملتقى، ولكنه تكريم يحمل اسم مجلة «العربي» بما لها من ثقل. كما أضيفت أيضا حفلات موسيقية، وأفلام تسجيلية، ومعارض تشكيلية، وأمسيات شعرية، وجولات ثقافية، عدا عن معارض الصور التي قدمت طرفا من ذاكرة الكويت والعرب والعالم، من خلال عدسات مصوري «العربي» الذين جابوا أكثر من 100 دولة خلال أكثر من نصف قرن. والمهم أن أبحاث جلسات الملتقى الفكري والنقاشات التي دارت حولها، كانت تجمع معًا لتنشر في جزء أو جزأين ضمن سلسلة كتاب العربي الفصلية، لتمثل مرجعا للقراء في موضوعها. لقد حاولنا أن يتخطى مفهوم الثقافة الفعل القرائي وحسب، لأن الثقافة هي الأثر، مثل علامات على الطريق لمن سبقونا ومن سيلحقون بنا. الثقافة هي الآثار الباقية والحية والمتجددة لشعب ما، أو أمة بعينها، أو شخص بذاته، فالثقافة هي ما يتركه هؤلاء علامة على الحضور يجتاز الأزمنة. وأعتقد أن الملتقى أصبح يمثل علامة مضيئة وموعدا لخارطة المؤتمرات الثقافية الكبرى بالوطن العربي. قراءة المستقبل ضمن قراءتنا للمستقبل اعتقدت أن مواكبة التطور تبدأ بتقديم «العربي» عبر وسيط جديد، يخاطب أجيالا شابة، بدأت تتعرف على عالمها عبر الفضاء الإلكتروني، فكان إنشاء موقع مجلة العربي على الشبكة العنكبوتية، وهو ما تم تحديثه قبل أسابيع ليلبي حاجة زواره، ليس فقط بتوفير مواد الربع قرن الأخير من إصدارات المجلة، ولكن ليكون موسوعة ثقافية تعنى بالنشر الكويتي، وبوابة تضيء تاريخ وثقافة هذا البلد. إن كثيرين في العالم العربي يتحدثون عن «الغزو الثقافي» وهو شعار ليس حقيقيا لأن رفع شعارات مماثلة هو أمر لصيق بمرحلة التابع، لا المبدع. لا شك أن الجميع يحاولون فرض ثقافاتهم خارج حدودهم، لأسباب اقتصادية ومجتمعية وسياسية، ولكن قد لا ينجح الأمر إن لم يجد قبولا. حين نصل لأسباب انتشار اللغة الإنجليزية، وعموم اللغة الإسبانية، وصولا إلى محاولات لتعلم لغات نوعية كالكورية والصينية، سنعرف أن اسبابا علمية ومجتمعية واقتصادية تدعم ذلك. المشكلة أن الجميع يعلم أبعاد ذلك لكن الحلول مهملة. أعتقد أن ميزان القوة والهيمنة له دخل بذلك، وأعتقد أن من بين القراءة الصحيحة للمستقبل أن يكون هناك دعم للعلوم، التي تنهض بالأمم، وتقديم النماذج العلمية والتفكير العلمي، على نحو بناء. بالنسبة لي، كان من بين الطموح الذي تحقق هو إصدار دورية علمية متخصصة موجهة لتبسيط العلوم وإشاعتها، فبدأنا بإصدار ملحق «العربي العلمي» في يونيو 2006 وهي التجربة التي دفعنا نجاحها إلى تحويلها إلى مجلة مستقلة شهرية صدر عددها الأول مطلع العام الماضي. لقد تعزز إيماني بحاجة القراء للعلم مع التلبية المباشرة والنجاح الكبير الذي حققته مجلة «العربي العلمي» والتي بدأنا بزيادة كمياتها المطبوعة منذ عددها الثاني، ولا تزال هناك حاجة لطباعة المزيد من النسخ وفقا لمؤشرات التوزيع. هذه التجربة دعتنا لإصدار «ملحق البيت العربي»، منذ عامين، ليلبي رغبة شريحة من قارئات وقراء العربي، الذين تابعوا ذلك الباب زاوية في متن المجلة، قبل أن تتحول إلى ملحق، عسى أن يأخذ مسار الملاحق التي سبقت وتحولت إلى مجلات: العربي الصغير، والعربي العلمي. وبالنسبة لمجلة «العربي الصغير» فأختتم بأن أشدد على أهمية هذه المطبوعة التي نالت ما تستحق من اهتمام، وقد واكبت عدة تطورات في الشكل، والمحتوى، وبقيت على حرصها في تقديم مادة ثرية بلغة عربية للأطفال والناشئة. وكان من أهم الإضافات الكتاب الذي أصبح يمثل إضافة لمكتبة الطفل العربي، من حيث تنوع محتواه، بين موسوعة مصغرة، وقصص عربية مترجمة، ودواوين، وحكايات مصورة. إننا نؤمن أن هؤلاء هم قراء «العربي» في المستقبل، ولذلك فإن إعدادهم اللغوي يجب أن يبدأ بشكل مباشر من المراحل الأولى، ومما يسعدنا أن تختار مناهج دراسية عربية محتوى مجلة «العربي الصغير» لتكون زادًا معرفيا ولغويا للطفل العربي. ختامًا يطيب لي أن أشيد بالثقة الكبيرة والتعاون المخلص والدور الواسع لكوكبة من أبرز الأسماء الكبيرة في عالم الكتابة آدابا ونقدا وفنونا وعلوما، الذين ساهموا بعلمهم الغزير وثقافتهم الرفيعة وأفكارهم المستقبلية فيما وصلت إليه وحققته «العربي» وإصداراتها، من مستوى راقٍ ومكانة بارزة في عالم الثقافة العربية المعاصرة. والشكر العميق والتقدير العالي والامتنان الهائل موصول لهذه الكوكبة من المحررين والكتاب والمخرجين والفنانين والفنيين والإداريين ممن تعاونوا وساهموا بجهدهم معي بكل إخلاص وحب لهذا المشروع الثقافي العربي، ومنهم من أدى واجبه وغادر أو أولئك الذين يعملون بجد وتفانٍ لتبقى هذه المجلة حاملة راية العربية وآدابها إلى كل آفاق الدنيا. إنها رحلة سنوات في مجلة عشقناها معًا كقرَّاء، قبل أن نشارك سويًّا في نقلتها النوعية والكمية إلى أجيال جديدة، رحلة سنوات مع «العربي»، عرفنا فيها تحديات كثيرة، وكان الأمل أن يكبر المشروع، فأزهرت أغصانه ثمارا وورودا للحضارة والمعرفة والثقافة والفنون في كل بيت عربي. |