شبكة النبأ: يتصور البعض منّا، وهو يتقلّب بين المنتجات التقنية الحديثة من وسائل اتصال وإعلام ومستلزمات بيتية، وغيرها، مما تصدره لنا الدول الصناعية المتقدمة، أننا على مسافة بعيدة جداً مع العلم، ربما يخاله البعض أنها بين الأرض والسماء، بسبب تأخرنا عن الركب، واكتفائنا بالاستهلاك، وبذل الاموال الطائلة لاستيراد مختلف أنواع السلع التي نحتاجها في حياتنا. في حين مطالعة بسيطة للنصوص الدينية وتراث أهل البيت، عليهم السلام، نجد أننا كنا نقف ذات يوم، في قمة العلم والمعرفة، وكانت تنهمر من علمائنا ومن مدارسنا الاختراعات والنظريات الرائدة، لاسيما في عهد الامام الصادق، عليه السلام. وهذا يستند على قاعدة رصينة من وحي السماء، حيث جاءت التأكيدات على العلم والمعرفة في القرآن الكريم، فقد جاءت أكثر من (1500) آية كريمة تتحدث عن العلم والمعرفة، والتعقّل، والتذكّر، والتدبّر، وكل ما يرمز الى العلم والثقافة، واذا عرفنا أن كل ما في القرآن الكريم من آيات هي: (6400) آية، وهي تتحدث عن شؤون الانسان العديدة في الحياة، من طب واجتماع وسياسة واقتصاد وعلاقات اجتماعية ومعاملات وعبادات، وايضاً عن الكون والحياة الآخرة والاحكام، بمعنى أن الحديث عن الثقافة بشكل عام، يحظى بنسبة الربع فيما يتضمنه القرآن الكريم، أما عن المعصومين، عليهم السلام، فالاحاديث كثيرة ومتواترة، لاسيما عن النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله. وعندما تصدر الأهمية للعلم، من الاسلام نفسه، وليس من بنات أفكار العلماء والمفكرين والمخترعين، كما هو السائد في بلاد الغرب، نعرف أن هنالك ما هو أكثر من الاهتمام والحرص، إنما قدسية كاملة. وهو ما يسلط عليه الضوء سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي – دام ظله- في كتابه "السياسة من واقع الإسلام"، حيث يفرد فصلاً عن سياسة الاسلام في الثقافة، فيؤكد أن العلم والثقافة، ليس فقط مما يدعو اليه المعصومين، عليهم السلام، والقرآن الكريم، كما هو جارٍ على مسائل اجتماعية وسياسية، واقتصادية واخلاقية، إنما هنالك مكانة خاصة للعلم والثقافة والمعرفة في حياة الانسان، لابد ان يعيها ويمنحها منزلة خاصة في حياته، ويضيئ لنا بالتفاتة ذكية مستوحاة من كلام لأمير المؤمنين، عليه السلام، حيث يقول: "الناس موتى وأهل العلم أحياء"، فلا يخفي سماحته إعجابه بهذا الحديث، ويقول: ".. وهذه الكلمة من أروع التعبير. فالناس -إن لم يكونوا علماء- فهم أموات، والاموات لا حق لهم في هذه الحياة، وأهل العلم هم أحياء وهم الذين يستحقون الحياة. فالجاهل وإن كان حياً في هذه الدنيا، فهو بحكم الميت، بينما العالم، وإن كان ميتاً منذ قرون فهو بحكم الحي". نعم؛ هذه حقيقة يعرفها الجميع، إذ نجد آثار العلماء والمبتكرين في حياتنا اليومية، بل لهم فضل كبير في مسيرة التطور التي يطويها الانسان في العصر الحاضر، ولولاهم لما تمكن الانسان من تبادل الافكار والآراء أينما كان، ولما تمكن من التنقل والاستفادة من تجارب الحياة والتأثير عليها. بل لما تمكن من تحقيق السعادة والرفاهية التي يعيشها اليوم. وكذلك يمكن أن نلاحظ هذه الحقيقة ايضاً في العلوم والمعارف التي خلفها لنا علماؤنا الأفذاذ في مجالات شتى، فإلى جانب العلوم الدينية، هنالك علوم الهندسة والفلك والطب والمعمارية. وما تزال آثار هذه العلوم ماثلة أمامنا، ولو أنها مجرد أطلال وملامح، لكنها تبقى مؤشرات ودلائل لهذا الجيل وكل الاجيال على ضرورة إيلاء العلم أهمية بارزة في طلبه والاجتهاد في تحصيله ثم نشره في الآفاق. سماحة المرجع يحكم الربط بين كون العلم عامل حياة للانسان، وبين القدسية التي يوليها الإسلام، وهي علاقة مفهومة ومنطقية، فلو لم تكن له هذه السمة العظيمة، لما كان مقدساً، حيث يشير سماحته الى الوجوب الكفائي لتعلم كافة الصناعات والحرف، ويوضح سماحته معنى الوجوب الكفائي بمعنى أن "لو ترك المسلمون جميعاً صنعة أو حرفة فتعطلت عندهم أجهزة الحياة – ولو نسبياً- اشترك الجميع في الإثم والعصيان والمسؤولية أمام الله تعالى.." وينقل عن الشيخ مرتضى الانصاري – قدس سره- وهو يُعد من أعلام الفقه الشيعي، ويسمى بالاستاذ الأعظم، وذلك في كتابه المنهجي "المكاسب" ما نصّه: "وللواجب بالصناعة الواجبة كفاية خصوصاً اذا تعذر قيام الغير به..". ويستنتج سماحته بناءً على هذه القاعدة، بان صناعة الطائرات – مثلاً- يُعد واجباً مقدساً في الاسلام، وايضاً صناعة المكائن والالآت الثقيلة، وحتى تعلم صنع الاقمار الصناعية والمركبات الفضائية وكيفية فلق الذرة، وغيرها.. كلها تعد من الواجبات المقدسة في الإسلام. وربما نلاحظ أن سماحة المرجع الشيرازي يعني بالاشارة الى صناعات تكنولوجية متقدمة جداً في مجال العلم، ولم يذكر صناعات خفيفة وبسيطة في متناول أيدينا، لأنه يريد أن يؤكد على اننا يجب أن نتطلع الى أبعد نقطة في عالم التطور والتقدم العلمي، ولا مجال لليأس والتخاذل والشعور بالاحباط والهزيمة النفسية، عندما تتعلق المسألة بالحكم الشرعي والأمر السماوي، كون القدسية نابعة من أن التخلّي عن طلب العلم والترقّي في سلّم التطور والتقدم، بمعنى إلحاق الضرر بالاسلام، وجعله متخلفاً ومتأخراً أمام الأمم والشعوب، وهذا ما لا يرتضيه لنا الله تعالى، بل يشكل معصية غير مباشرة. واذا نلاحظ الحرص والاهتمام لدى ابناء الجيل الحاضر بالدراسة الاكاديمية، لاسيما في اختصاصات لها مكانة ومنزلة في المجتمع والدولة، مثل الطب والهندسة والقانون والاقتصاد والسياسة، ونيل الشهادات العليا في هذه الميادين، فانها يجب أن تكون مؤشرا ايجابيا على وجود رؤية مستقبلية لتقدم البلاد وتطوره، ولو بعد حين، وهذا بحاجة الى مزيد من التكثيف في الجهود وتحديد في الرؤية وإخلاص النية وشد العزيمة لتحقيق الاهداف العليا والسامية التي تتجاوز المصالح المادية والشخصية، لتصل الى مصالح البلد والأمة، وهذا تحديداً من مفاتيح التقدم التي حملها علماء الغرب في القرون الماضية، فقد فكروا لأن تكون انجازاتهم وابتكاراتهم في الطاقة الكهربائية والآلة والهاتف والطب وعلاج الامراض، لكل البشرية، وليس له شخصياً أو لابناء بلده، يكسب من ورائه المال والسمعة أو المنصب الزائل. |