حكاية «العدناني»... سرّ أبيه
تصغير الخطتكبير الخط
هذه المرّة كان حديث «الوسط» وحدثُها عن السيد العدناني، الأديب والشاعر، الخطيب الحسيني، والعالم الموسوعي، السيد محمد صالح ابن السيد عدنان آل السيد عبدالجبار القاروني الموسوي المعروف بالخطيب العدناني (1918 - 2007م).
هذه الأسرة العريقة التي أنشد فيها أبو البحر الخطي (ت 1618م/ 1028هـ) ذات يومٍ من أيام القرن الحادي عشر الهجري شعره الخالد:
آل قارون لا كبا بكم الدهرُ
ولا زلتُمُ رؤوسَ الرؤوسِ
فقد ارتبط الشاعر الخطي بعلاقة صداقة بالعديد من أبناء هذه الأسرة المرموقة في المجال العلمي في البحرين فمدحهم ورثاهم. ولازال عطاء هذه العائلة الكريمة يتدفق بالخير والعطاء، والموهبة والابداع في مختلف مجالات العلم والمعرفة.
والده العلامة السيد عدنان (ت 1928م/ 1347هـ) القاضي الجعفري مؤسس ورئيس الأوقاف الجعفرية وأموال القاصرين، الذي يرجع له الفضل في حفظ الأوقاف فترة توليه مسئوليتها (1927 - 1928م)؛ إذ قام بعملية مسح كاملة وشاملة لجميع الأوقاف في جميع قرى ومدن البحرين، وتحديد حدودها وذكر الواقفين لها، وبيان أوجه الصرف لها، في دفتر سمي باسمه «سجل السيد عدنان» الذي يعتبر وثيقةً تاريخيةً بالغة القيمة.
كان وحيد أبويه، ذاق مرارة اليتم منذ الصغر، فقد أمه وما لبث وهو في عامه التاسع أن فقد أباه، فنشأ تواقاً إلى تعوّيض هذا الحرمان العاطفي الذي نشأ عليه صغيراً وعمل على تجنبه وهو كبير، فأسّس أسرةً كبيرةً، تنعم بالحب وترفل بالسعادة في ظل أب يتسع قلبه لكل هذا، وإن شغلته الشواغل.
كل شيء تقريباً في حياة هذا الرجل استثنائي، مواهبه المتعدّدة، التزامه بنظام يومي في ترتيب وقته وأولوياته، طموحه العالي، أفقه الفكري الذي يتسع للمختلفين معه، وقد طبّق هذا الأمر حتى في إطار أسرته الكبيرة مع أولاده وبناته.
ويكفي للوقوف على نماذج من إصراره على النجاح والطموح المتوثب، أن نعرف أنه كان يقرأ الكتب طوال 60 عاماً، وبشكل يومي طيلة ثمان ساعات يومياً، ما جعل منه واسع الإحاطة وضليعاً ليس في مجال التاريخ الإسلامي فحسب، بل في مختلف مجالات المعرفة الإنسانية.
وقد كان خطيباً حسينياً ذائع الصيت، وكان وفياً لاختصاصه فيه، ويملك إرادة عجيبة ودأب غريب، حتى لقد كان في فترة من فترات حياته يقرأ 11 مجلساً حسينياً من الصباح حتى المساء في اليوم الواحد.
كان العدناني شديد العناية بالقراءة والكتاب، وقد كوّن مكتبةً كبيرةً في منزله بالنعيم فاقت الـ 3000 كتاب، جمعها طوال حياته وبها أكثر من 300 مخطوط تزيد أعمارها على 200 سنة، حفظها طوال فترة حياته بعناية واهتمام.
وقد عُرف السيد العدناني، كما ينقل منصور محمد سرحان في مذكراته، بحبه لطباعة الكتب ونشرها بشكل فاق التصور، وقد ضحّى بأملاكه الخاصة من أجل طباعة كتبه، وقد أبلغني، يقول سرحان، أنه باع أحد المنازل التي يملكها من أجل طباعة كتبه، وقال إنه لن يهدأ له بال حتى يتمكن من طبع بقية مؤلفاته المخطوطة وإن كلفه ذلك بيع البيت الذي يسكنه حينذاك. («مواقف وذكريات»، ص 259).
من هنا، قد لا يكون مستغرباً أن نعرف أن الراحل قد ترك نتاجاً علمياً ضخماً ومتنوعاً، ففي غضون 40 عاماً استطاع أن يؤلّف ما يزيد على 110 كتب في مختلف العلوم الدينية والاجتماعية والعلمية. وقد تمكن في حياته من طباعة 45 كتاباً من تلك المؤلفات، وبقى أكثر من 70 مؤلفاً قيد الطباعة حتى الآن.
لقد كان الراحل العدناني مكثراً من الشعر بأنواعه المختلفة، وقد كان للمنبر الحسيني الذي ارتقى أعواده طيلة خمسين عاماً أثرٌ أكيدٌ في ترسيخ موهبته الشعرية. لقد كان حريصاً على نظم الشعر حتى في أيامه الأخيرة في السرير، فعلى رغم غيبوبته فإنه كان ينظم أبياتاً يرثي بها نفسه على عادة الشعراء القدامى.
في العام 1938، عندما أنهى علوم الحوزة الدينية الأولية، وكان من الطبيعي أن تكون الوجهة إلى النجف الأشرف في العراق، لكن مستشار حكومة البحرين، تشارلز بلجريف، رأى شيئاً آخر. أراد أن يصنع من السيد قاضياً شرعياً غير تقليدي، بإرساله إلى مدينة لكنهو في الهند، وليس إلى العراق.
وفي الهند تفتحت مواهب السيد على عوالم جديدة لم يألفها جيله من المتعلمين في الوسط الديني، وفيها تشكل حسه الفني وذوقه الخاص. وإذا كان الشعر غرام السيد الأول، فإن الصورة حتماً كانت غرامه الثاني. لاحقاً، في بيوته الأربعة، ملأت الصور الجدران حسب مزاجه الخاص. في غرفة الضيوف؛ وَضعَ صور أصدقائه من رجال الدين، وفي مكتبه؛ وَضعَ صور الزعماء والملوك. وفي غرف نومه؛ وَضعَ صوراً للوحات فنية عالمية راقية.
كانت دراسة الراحل في الهند منعطفاً مهماً غيّر مجرى حياته، ولأنه كان واعياً بما يريده هو، مدركاً لطبيعة الدور الذي سيختطه لنفسه، فقد رفض أن يكون قاضياً وموظفاً حكومياً بعد أن اجتاز تعليمه وحاز على الإجازة العلمية التي تؤهله ليكون قاضياً في المحكمة الشرعية، مفضّلاً الكتابة والخطابة ونظم الشعر.
في كلمة العائلة التي ألقاها نجله عقيل الموسوي جاء فيها: «نشأنا في كنفه بدون تعليمات صارمة، وبدون أي استبداد، وكفانا حضوره تأديباً لنا. واستمتع هو بمراقبتنا نكبرُ أمامَ عينيه، ونسلكُ دروباً مختلفة، ونتغربُ للدراسة أو للرزق مثله، في بلدانٍ لم تخطرْ على بال أحد. يفرحُ الراحل كلما تشابهت تفاصيل حياتنا بماضيه، ويضحكُ وكأنه انتصر على التاريخ لأنه كرّر نفسه، ولا يفوته أن يستشهد بأبيات من شعره التي وثقت حياته مثل مذكراته اليومية».
رحم الله الفقيد، فقد كان كثيراً.
اضغط لقراءة المزيد من مقالات: [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 4658 - الثلثاء 09 يونيو 2015م الموافق 22 شعبان 1436هـ