"هلاوس"
إذا جاز لنا أن نعتبر أن للسياسة تقاليعها، فبوسعى أن أقول إن الحديث عن روسيا فى السياسة المصرية هو تقليعة الأسبوعين الأخيرين فى خطابنا الإعلامى والسياسى. عبر عن ذلك سيل التعليقات التى حفلت بها وسائل الإعلام المصرية المرئية والمقروءة. التى تزامنت مع سيل الرسائل والإشارات الإيجابية الدالة على أن علاقات البلدين بصدد استعادة دفئها. وهو ما تجلى فى استقبال الطراز الروسى والحفاوة به فى أبرز الموانى المصرية، وذلك فى إطار التمهيد للزيارة التى يفترض أن يقوم بها اليوم للقاهرة وفد روسى مهم، على رأسه وزيرا الدفاع والخارجية، وهى التى سبقتها عدة زيارة لوفود شعبية مصرية لموسكو، واتصالات دبلوماسية بين القاهرة وموسكو كانت معبرة عن الرغبة فى استعادة الدفء ومد الجسور بين الطرفين.
ما حدث يعد تطورا نوعيا إيجابيا فى علاقات البلدين، وهو يستحق الحفاوة والترحيب بكل تأكيد، لكننى لا أستطيع أن أكتم دهشة إزاء المزايدات والمبالغات الفجة التى قدِّم بها ذلك التطور إلى الرأى العام المصرى. فقد صوره البعض على أنه صفعة مصرية للولايات المتحدة الأمريكية، وقرأت لمن ادعى أنه بمثابة انقلاب استراتيجى فى السياسة الخارجية المصرية.
ونشرت إحدى صحفنا تقريرا إخباريا تحدث عن «الرعب» الحاصل فى واشنطن جراء متغيرات السياسة المصرية. كما قرر كثيرون أن مصر بصدد التحول إلى الاعتماد على السلاح الروسى استلهاما لما فعله الرئيس عبدالناصر قبل نحو ستين عاما. حين تحدى واشنطن بإعلانه عن عقد صفعة الأسلحة التشيكية. الذى لا يقل غرابة عما سبق أن أستاذا للعلوم السياسية كان قد سافر إلى موسكو ضمن أحد الوفود الشعبية قال فى ندوة عامة بعد عودته فى سياق امتداحه للموقف الروسى، إن موسكو وجهت إلى واشنطن مؤخرا إنذارا شديد اللهجة طلبت منها فيه عدم التدخل فى الشئون المصرية. فى تكرار للإنذار الذى وجهه بولجانين إلى الولايات المتحدة فى خمسينيات القرن الماضى. وهى قصة مخترعة لا أساس لها.
تلك مجرد نماذج للادعاءات التى راجت فى الفترة الأخيرة، وكانت أقرب إلى التمنيات أول الهلاوس منها إلى حقائق الواقع وخرائطه. وللإنصاف فإن التصريحات التى صدرت عن الخارجية المصرية فى هذا الصدد كانت أكثر دقة ومسئولية، حتى أزعم أنها بمثابة تكذيب لإدعاءات وسائل الإعلام، فضح ما تضمنته من عبث وتهريج. فقد قرأت فى صحيفة الشرق الأوسط (عدد 11/11) تصريحا للمتحدث باسم الخارجية المصرية الدكتور بدر عبدالعاطى قال فيه إنه «يوجد بالفعل اتجاه لعلاقات قوية مع موسكو، لكن ليس على حساب علاقاتنا بأى طرف» ــ المقصود هنا هو الولايات المتحدة ــ إلى أن أضاف قوله: نحن لا نستبدل طرفا بطرف آخر، ولكن نعمل على تنويع البدائل المتاحة بما يعظم المصلحة الوطنية المصرية. اللافت للنظر أن تقرير الشرق الأوسط نقل عن أحد المحللين الاقتصاديين الأمريكيين قوله إنه لا يبدو أن هناك قلقا فى واشنطن من التقارب بين القاهرة وموسكو.
مثل هذه التصريحات تعطى انطباعا مغايرا بل معاكسا تماما لما تعبر عنه وسائل الإعلام المصرية، التى رأيت كيف اتسم أداؤها بدرجة محزنة من الخفة والشطط. وهو ما أرجعه إلى عاملين. الأول يتمثل فى توهم كثيرين أن هناك طلاقا بين القاهرة وواشنطن بسبب تحفظ الإدارة الأمريكية لأسباب قانونية داخلية على انقلاب 3 يوليو الذى حدث فى مصر، الأمر الذى دفع بعض وسائل الإعلام عندنا إلى الحديث عن تدبير مؤامرة أمريكية لصالح الإخوان، اتهم الرئيس أوباما خلالها بالتواطؤ مع التنظيم الدولى للجماعة. وردا على تلك المؤامرة، فإن مصر الجديدة قررت أن تدير ظهرها للولايات المتحدة، وأن تبحث عن بديل وجدته فى روسيا.
الأمر الثانى أن البعض عندنا استعادوا أجواء الخمسينيات والستينيات وخرائطها. ومن ثم استسلموا لوهم آخر تمثل فى إعادة إنتاج التجربة الناصرية وعودة الزعيم الخالد لسياسته التى استثمرت أجواء الحرب الباردة، وهو ما شجعه على أن يمد جسوره مع الاتحاد السوفييتى للرد على واشنطن التى رفضت إمداده بما احتاجه من سلاح.
الذين استسلموا لمثل هذه الهلاوس تجاهلوا عمق وتعقيد العلاقات المصرية الأمريكية التى نسجت خلال 40 سنة، بحيث صارت تحتمل خلافا فى الرأى فى حين غدا الطلاق فى ظلها بمثابة جراحة كبرى لا تتوفر شروط نجاحها فى وضع مصر الراهن. كما تجاهلوا أن عبدالناصر لم يعد، وأن الاتحاد السوفييتى انهار وأن الحرب الباردة انتهت، وأن روسيا ليست امتدادا للاتحاد السوفييتى، وأن الدنيا كلها تغيرت خلال نصف القرن الأخير ــ غدا بإذن الله ننتقل من الهلاوس إلى محاولة قراءة الحقائق.