أمريكا وصناعة العدائية.. الصين أنموذجاً
بقلم: نسيم قبها
لقد قامت أميركا بخباثة وبمكر سياسي ، وعلى امتداد إدارتي ترمب وبايدن في تهيئة المناخ السياسي لجعل روسيا والصين العدو الأيديولوجي والقيمي كما فعلت في السابق مع الاتحاد السوفيتي ثم مع الأيدلوجية الإسلامية ، إلا أن إدارة بايدن وتحت ستار الحرب الأوكرانية وتسليط الضوء على شلل قيادة الحزب الشيوعي في الظهور بموقف ريادي يمثل رؤيتها في "ضرورة حماية ميثاق الأمم المتحدة"، عملت جاهدة لتحويل عقوباتها الاقتصادية وقيودها الاختيارية على الصناعات التقنية، كما حصل في قضية "هواوي"، إلى منظومة اقتصادية ومالية متكاملة عبر إطلاق المكتب الفدرالي للصناعة والأمن قيودًا قانونية "عابرة للحدود"، وتطبيق وزارة الخزينة لعقوبات استخدام نظام الدولار لتمويل المبيعات. ذلك أن القيود التقنية تمنع الشركات غير الأميركية أو المقيمة بيع أي منتج أجنبي يستخدم تقنية تصنيع أو مكونات أميركية، ليس من أجل منع صادرات أشباه الموصلات المتقدمة فقط، بل ومنع تصدير آلات تصنيع الرقائق وتجهيزات "السوبركمبيوتر"؛ لكونها أجيالَ تقنية متقدمة. ويُعد ذلك قيدًا عامًّا على الصين وليس على الصناعات العسكرية فقط، وترمي الولايات المتحدة من ذلك بشكل واضح وصريح إلى تقليص قدرات وطاقة الصين الإنتاجية واقتصادها وصناعتها العسكرية بصورة تُبدد أي مخاوف عسكرية وأمنية في المستقبل. وهو ما يمهد لقيام واشنطن بضغط من جناح الصقور في الدولة العميقة بإقرار إجراءات جديدة أكثر صرامة تمس قطاعات استراتيجية أخرى منها المال والتقنيات البيولوجية لـ"كسر الصعود التقني الصيني المذهل"، ومن ثم احتواء الصين وتعطيل تقدمها وقدرتها على منافسة أميركا على المدى البعيد.
ومع أن أميركا هي التي رعت الأزمة الأوكرانية وأشعلت الحرب لأهداف باتت واضحة؛ إلا أن الصين قد استثمرت في الأزمة أيضًا لتسليط الضوء على مخاطر الانقياد لأميركا وضرورة تفكيك هيمنتها، فالإعلام الصيني مستمر في إبراز مخاطر توسع حلف الناتو في مناطق روسيا الحيوية، كما أن انشغال الغرب واستنزاف موارده العسكرية في الحرب الأوكرانية يعرقل استهداف الصين في منطقة الأندوباسيفيك. وهذا بالإضافة إلى أن الحرب الأوكرانية أسهمت في تفعيل تسويق الصين لقدراتها على حل المعضلات السياسية الكبرى عبر ما أسماه الرئيس الصيني بـ"دبلوماسية الدول الكبرى".
ومن مساعيها إطلاق مبادرة الأمن الدولي (Global Security Initiative) منتقدة أعمال أميركا الرامية لتقسيم العالم إلى "كتل إقليمية متعادية"، ومحرضة الدول للابتعاد عن النظام الدولي الأميركي، واستبدال نظام يخدم "متطلبات تطوير الدول الناشئة" به. وعززت ذلك بإعفاء بعض الدول من الديون المتراكمة لسد ذريعة أميركا بشأن "سياسة الإقراض الصينية". وهو الأمر الذي حدا بأميركا وحلفائها إلى إطلاق مبادرة عالم الجنوب (Global South Initiative) والتي وصفها بوريل في مؤتمر ميونخ للأمن بقوله "أرى مدى قوة الادعاءات الروسية، واتهاماتها بالمعايير المزدوجة. علينا تفكيك هذه الرواية، والتعاون مع البلدان الأخرى، وقبول أنه يجب تكييف هيكل الأمم المتحدة"، حيث لا يزيد عدد دول الجنوب الممتثلة للعقوبات على روسيا عن ٤٠٪.
وبالإضافة إلى ذلك فإن تركيز أميركا على العلاقة الروسية الصينية، وموقف الصين من المسألة الأوكرانية، يؤثر بشكل مباشر على أحد أهم مصادر ثروة وتطور الصين، والقائمة على التجارة والاستثمار مع الغرب، حيث يوفر الموقف الصيني السلبي في الأزمة الأوكرانية لأميركا مبررات اتهام الصين بالتجرد من قيم وميثاق الأمم المتحدة، ويخدم مساعيها في اقتياد أوروبا ودول الشرق الأقصى لمواجهة الصين عبر التحالف. فلقد نجحت خلال الربع الأول من عام ٢٠٢٣ في افتتاح قاعدة عمليات وتدريب وإمداد لقوات الحلفاء في جزيرة غوام بطاقة ٥٠٠٠ جندي مارينز أميركي، وتمكنت من دفع الفلبين واليابان لتوقيع معاهدة أمن ودفاع مشترك، والتأثير على دولة فيجي للنأي عن علاقتها التجارية مع الصين، حيث صرَّح رئيس الوزراء أن بلاده ديمقراطية ولا تنسجم قيمها مع الصين. كما نجحت في تفعيل دور الناتو في منطقة الإندوباسيفيك عبر تأسيس لجنة استراتيجية دفاع مع الهند، وجعل فرنسا مزاحمة لروسيا في التوريد العسكري للهند، وإطماعها بإمكانية التصنيع المشترك، كما ونجحت في إشعال التنافس الهندي الصيني في بوتان وبنجلاديش، والتوقيع على اتفاقية عسكرية لإنشاء ٩ قواعد في الفلبين بعد عودة ماركوس الابن للرئاسة، بالإضافة إلى اتفاقيات أمنية ودبلوماسية مع دولة بابو غينيا الجديدة.
وأما العلاقة الصينية الروسية، فرغم تقاطعهما في الجوانب السياسية لكن ثمة ما يعيق العلاقة التجارية بينهما لأسباب تعود لمصالح الصين التجارية مع الغرب، وتعود كذلك لانعدام الثقة بين البلدين تاريخيًّا، وبسبب مطالبات روسيا بحماية صناعاتها الوطنية؛ ولذلك فإن القوة تميل لصالح الصين؛ لأنها متنفس روسيا للهروب من العقوبات الغربية.
ولا بد من الإشارة إلى أن تنافس الولايات المتحدة مع الصين مطلوب أميركيًّا، بل مرغوب أيضًا؛ إذ يوفر لأميركا مبررات تركيز تفردها في الموقف الدولي، وفرض قيمها وإرادتها وإعادة هيكلة العلاقات الدولية بمقتضى مصالحها. بينما تدرك الصين أنه لا يمكنها مواجهة أميركا وأحلافها بمفردها ويظهر ذلك في تنديد الرئيس الصيني بأميركا والغرب في خطابه أثناء جلسة افتتاح البرلمان الصيني، حيث قال: لقد "نفذت الدول الغربية، بقيادة الولايات المتحدة، احتواءً شاملًا وقمعيًّا على الصين، ما أدى إلى تحديات خطيرة غير مسبوقة لتنمية البلاد"، ومن ذلك الاحتواء الشامل، قطع أميركا الطريق على التمدد الصيني في آسيا الوسطى والقوقاز في ظل انشغال روسيا بالحرب الأوكرانية، وذلك عبر زيارة وزير الخارجية بلينكن للمنطقة والتي وصفتها صحيفة التايمز بأنها "لحظة قناة السويس" لبوتين في آسيا الوسطى.