ما كتبه عمنا محمود السعدني واصفا معركه بين ذئب جائع و"عباس" ناهش القبور الذي اعتاد ان يرتاد عليها قاصدا كفنا أو سنه ذهبيه لجثه من جثث الأغنياء...
"عض عباس علي شفتيه محنقا في قسوة فهذا الذئب سيفسد عليه ليلته..وخاف ان تعرض له ان يفتك به ويقتله، وهم بالعودة من حيث أتي ولكن الكفن الغالي والأسنان الذهبيه شدته إلي مكانه وراح يفكر بسرعه... وأسند جسمه الضخم علي القبر المجاور وعيناه الحادتان الضيقتان تراقبان الذئب وهو يحفر الأرض بهمه فائقه...
ولمعت في ذهن عباس فكره رائعه.
فلو ان عباس ترك للذئب مهمة الحفر ثم استطاع أن يحمله علي الفرار بعد ذلك لكانت ليله موفقه!
وعندما انتهي الذئب من الحفر وقف يتلفت حوله، منزوف الأنفاس وجسمه كله ينتفض، وعندما اطمأن إلي ان كل شيء علي ما يرام دس رأسه في الحفره متأهبا للوثوب داخل القبر لينهش الجثه التي لم تزل ساخنه، غير أن عباس عاجله بطوبه اصابته في ظهره.... فأخرج الذئب رأسه بسرعه واستدار بجسمه كله نحو الخلف وقد اتسعت عيناه وانفتح فمه علي آخره، كأنه تمساح، وراح يعوي عواء خانقا ولكن بقوة.... وأرعش منظر الذئب المتحفز قلب عباس، فهو لم يواجه ذئب من قبل، ولكنه استطاع ان يثبت مكانه يتحرك والذئب الذي لا يبعد عنه كثيرا يحدق بقسوة في الفضاء.
ويبدو ان الذئب قد اطمأن إلي انه لا يوجد ثمة خطر عليه، فاستدار مره اخري ودس رأسه في الحفره وقوس مؤخرته إستعدادا للوثوب، ولكن عباس الذي كان يتربص له في الخلف عاجله بطوبه أخري، فانسحب الذئب سريعا إلي الخارج وراح يدور حول نفسه يتشمم الأرض وهو يزوم في غضب شديد..
ثم دار حول المقبره في حذر قبل أن يحاول الوثوب من الحفره إلي الداخل
وأيقن عباس أنه لا فائده ترجي من وراء قذف الذئب بالطوب...... وقرر ان يواجه الذئب بالفأس الذي يحمله!
وصرخ الذئب صرخه هزت كيان عباس وانسحب سريعا إلي الخلف وهو يجر وركه المكسور علي الرمال التي تخضبت بدمه ووقفت بعيدا ينظر إلي عباس بعينين يتطاير منهما الشرر واسنان حاده لامعه متشوقه للطعام.
ولكن عباس، الذي كان قد قرر ان يخوض المعركه حتي النهايه، اندفع نحو الذئب في جنون وهوي بالفأس علي رأسه غير أن الذئب أفلت من الضربه وهجم علي عباس فأنشب أظافره في صدره وأطبق بأسنانه علي عنقه وسقط عباس علي الأرض يصرخ في ألم وتدحرج الفأس إلي جانبه وأطبق بيديه القويتين علي ورك الذئب المخلوع فعوي الذئب كأنه يبكي وأفلت من عباس بعيدا ولكن ليعود فيهاجمه......
وعندئذ وجد عباس فرصه ليلتقط الفأس ويشهره في وجه الذئب متحفزا وماتت أصابع عباس علي الفأس وهو يرفعه إلي أعلى ويهوي به علي ظهر الذئب وعلي أرجله واستمات الذئب هو الآخر وهو يقضم من ساق عباس وينهش من ذراعه ويمزق بأظافره الحاده في ضلوعه...وطالت المعركه واحتدمت!
وشعر عباس بصداع حاد يحطم عظام رأسه ويسحقه وبألم في عينيه وبنار حاميه تسري في بدنه وتنهكه وبالدم يغطي وجهه ورقبته ويلطخ يديه وساقيه وتمزق جلبابه فأصبح خرقا مهلهله تعوقه عن الحركه وتقيده...
وود لو استطاع ان يطلق ساقيه للريح ويفلت بعمره من وجه الذئب المفترس ولكنه لم يعد يستطيع الهروب...
لقد خارت قواه تماما ولم يعد يدري اية قوة خارقة تسنده وتؤيده الفأس لا يزال بين يديه يهوي ويرتفع كأنه شادوف والذئب لا يزال يهاجم في استماته ولكن في ضعف.
وجن جنون عباس فراح يصرخ كالمسعور وهو يهوي بالفأس ويخبط به خبط عشواء علي الذئب وعلي الرمال وعلي القبر وفي كل مكان...
وندت عنه صرخه مزقت ضلوعه عندما هوي بالفأس علي أصبعه ولكن بالرغم من ذلك لم يهدأ ولم يتوقف ولم يسقط علي الأرض فقد استبد فلم يعد يرجو إلا أن يفلت بحياته...
والذئب المجروح يقاوم في جنون هو الآخر، ويهاجم في يأس قاتل وكان من الممكن أن تظل المعركه ناشبه بين الرجل ومنافسه حتي يأكل أحدهما الآخر...
لولا شعاعا رقيقا تسرب من وراء الأفق وهبت نسمات طريه من الصحراء المحيطه لسعت جروح عباس فشعر بها كأنها طعنات سكين حاده تمزقه ثم غمر النور الباهت الصحراء والمقابر....
لقد جاء الفجر وعلي ضوء الفجر رأي عباس مسرح المأساه بعين واحده نصف مريضه...
كان الذئب يستلقي علي جنبه، فاتحا فمه، باسطا ذراعيه، ينزف دما، وأسنانه طارت أكثرها، ونصفه الاسفل ميت تماما، ولسانه يتدلي مجروحا يلعق من الرمل في جنون، ورأسه يهتز في عصبيه، وعيناه الملطختان بدم بارد تراقبان عباس.
وتراجع عباس إلي الخلف وإستند بظهره علي شاهد قبر مرتفع انفتح فمه علي آخره، وصدره يعلو ويهبط وأنفاسه تتلاحق والدم يسيل علي ذراعيه وصدره ورقبته في قنوات طويله، والفأس بين اصابعه الغليظه وتحت قدميه وعلي مسافه قريبه تبرز الفتحه التي حفرها الذئب بهمه..
ونظر عباس مره أخري إلي الذئب، كان لا يزال مكانه مطروحا علي جنبه وقد بدا عليه أنه عازف تماما عن معاودة الصراع، وعندما أدرك عباس حقيقة الموقف تراجع إلي الخلف في خطوات سريعه..... وشب الذئب علي ذراعيه اول الأمر، ظنا منه ان غريمه يستعد للهجوم، وعندما أدرك أنه يفر من امامه.... تحامل علي نفسه وتراجع هو الآخر ساحبا نصفه الميت في وهن إلي الخلف.....
ظل ينسحب وعباس يتراجع إلي أن اختفي بين المقابر ثم اطلق ساقيه للريح هاربا في الصحراء."
مقتطفات من قصة الذئب .. لعمنا محمود السعدني