"إنني لم أتعلم شيئاً إلا في المنفى، والمائة شهر التي قضيتها هناك، كانت أكثر فائدة وأعرض من الخمسين سنة التي سبقتها. عندما خرجت من مصر، كنت مجرد أبله، أصدق ما يقال في الإذاعة، وكنت مؤمناً بما تردده الأغاني، كنت مؤمناً بأننا أمة واحدة، وإذا بي أكتشف أننا أمم شتى. تصورت أن هناك نظماً تقدمية، وأخرى رجعية، فإذا بالحقيقة المرة تصدمني، وهي أن التصنيف حبر على الورق فقط، وأن الجميع سواء، مع فارق بسيط، هو أن بعض النظم تلتزم الصمت، وبعضها يجعجع بالكلام، ويعيش في شعاراتٍ، ويستهلك أغاني ويمضغ عبارات، وأن الإنسان العربي مسحوقٌ في ظل الجميع، لكنه أكثر انسحاقاً في ظل النظم التقدمية، وأن هذه النظم متقدمة فعلاً، ولكن، في أساليب القمع والقهر ومسح شخصية المواطن الممسوحة أصلاً، ومن قديم الزمان. وأدركت في المنفى أنه كلما علا صوت النظام، قل فعله، وكلما كثرت الأناشيد كثرت الهزائم، وأنه، بقدر ما يرفع الزعيم في العلالي، اندفن الشعب في التراب. واكتشفت، أيضاً، أننا انهزمنا في داخلنا، قبل أن تهزمنا إسرائيل في ساحات المعارك".
عمنا محمود السعدني - كتاب الولد الشقي في المنفى