من مقال الاستاذ منير عامر عن عمنا محمود السعدني بدار الهلال عام ٢٠٢١
وكان علينا أن نعيش عاما وعدة شهور قبل أن تصافح عيوننا ملامح محمود السعدنى بعد أن خرج من المعتقل، وكنت أول من زاره بالمنزل سائلا إياه متى يعود للكتابة فى صباح الخير؟
قال لن يسمح السادات بذلك، وتمر الأيام وألتقي به بعد شهور فى بيروت سافر إليها باحثاً عن موقعه فى الصحافة العربية.
لا أنسى وقوفنا فى شرفة حجرته بالفندق بشارع الحمراء ببيروت وكان فى الشارع سيدتان تلتحفان بالسواد تعرضان بعضًا من السلع للبيع، قال لي محمود السعدنى هؤلاء من أهل الجنوب اللبنانى الذى سيذيق العالم العربي الويل نتيجة غياب الاهتمام به بعد رحيل جمال عبدالناصر، هذا الذى كان حريصا كل الحرص على العناية بأهل جنوب لبنان ليدمجهم فى النسيج اللبنانى وكان يحلم بهدم الجدار الفاصل بين "الشيعة" "والسنة" وهو أمر لا تتمناه إسرائيل أو أمريكا أو الكثير من العواصم العربية التى تقتات من الخلافات العربية.
وما هي إلا عدة أشهر حتى أرسل لي برقية من أبوظبى أحضر الفيزا بالمطار وكانت زوجتي مريضة فحدثته تليفونيا بأنى أحتاج لبعض الوقت لترتيب أموري للسفر إليه حيث كان يستعد لإصدار صحيفة أسبوعية من أبوظبى بتكليف من صديقه الذى أحب كلماته كثيرا الشيخ زايد.
سافرت إليه وبدأنا العمل لإصدار الصحيفة، وجمعنا بعض الموهوبين من الشباب العربي لتصدر الفجر بعد عدة أسابيع.
ومن العجيب أنها كانت تطبع بالكويت لأن أبو ظبى كلها عبارة عن عدة أحياء متناثرة على خريطة صحراوية لا تملك هذا التحضر الذى تملكه حاليا ولكنه كان موجودا فى خيال الشيخ زايد.
فزايد بن سلطان هو أحد الحكام القلائل الذى استطاع أن يترجم أحلامه لواقع،
فصارت الإمارات كما هى حاليًا، درة آسيا المطلة على الخليج العربي. لم أستطع تحمل الحياة فى ظل الرطوبة التى تكتم على صدرى، فطلبت من محمود السعدنى أن يتركنى لأعود إلى القاهرة بعد 50 يوما من إصدار خمسة أعداد من جريدة الفجر، وسمح لى بذلك.
قالى لي وهو يودعنى: كنت أعلم أنك لن تتحمل الحياة بعيدًا عن القاهرة.
بكرم معهود عن محمود السعدنى أجزل لى العطاء مكافأة نهاية الخدمة ثم سافر إلى لندن ليصدر مجلة 23يوليو ولم تفتر علاقتى بهذا الساخر الجميل إلى أن أزالت الأيام الفصل بينه وبين التواجد بالقاهرة فقد تم اغتيال السادات وتولى حسنى مبارك الحكم وعاد محمود السعدنى ليضيء دار الهلال من الصفحة الأخيرة بمجلة المصور.
كل السطور السابقة تحكى ملامح من محبة محمود السعدنى لهذا البلد ولن أستطيع أن أوفّي الرجل حقه فى ما أعطاه، فقد كانت خطواته على أرض مصر قبلات على خريطة عشقها بلا نهاية.
أرجو لقارئ هذه السطور التماس عجزي عن التعبير عن عشق محمود السعدني لأهل مصر والعروبة.
أعطى الرجل ولم يسأل يوماً عن ثمن.