البحريـــن وطــــن التعايــــش والتسامــــح
عبدعلي الغسرة
نظمت جمعية تاريخ وآثار البحرين مؤخراً ندوة بعنوان ''البحرين بلد التسامح والتعايش'' للقس هاني عزيز راعي الكنيسة الإنجيلية الوطنية، وقد أشار إلى مجموعة من المؤشرات التي يستند عليها مبدأ التعايش، ومنها؛ الإرادة الحرة المشتركة لبني البشر، التفاهم حول الأهداف والغايات، التعاون على العمل المشترك لتحقيق تلك الأهداف والغايات، وصيانة هذا التعايش بسياج من الثقة والاحترام المتبادل بين أفراد المجتمع، وأن يتعزز بالقواسم المشتركة وإلى القدر المشترك من القيم والمثل والمبادئ التي تجمع بين أبناء البشر والتي لا خلاف عليها ولا نزاع حولها.
وإذا قام التعايش على هذه الأسس فإنه سيكون ضرورة من ضرورات الحياة على هذه الأرض، وسيلبي نداء الفطرة الإنسانية السوية للعيش في دعة وسكينة، وسيسعى الإنسان بما أوتي من جهد لتعمير الأرض إنسانياً وحضارياً.
خلقنا سبحانه وتعالى من طينة واحدة، ولكن من أجناس متنوعة وألوان مختلفة ولغات عدة، وخلقنا من قبائل وشعوب وذلك لحكمة ربانية؛ هدفها أن يتعارف البشر ليتبادلوا المنافع والمصالح، ويتعايشوا بسلام وأمن في وحدة واحدة بعيداً عن العداوة والضغينة، وبعيداً عن الأنانية والفردية، من أجل أن يعيش الإنسان ويتعايش مع نفسه والإنسان الآخر، بل مع الحياة، ففي هذه الحياة الكبيرة لا يستطيع الإنسان أن يعيش بذاته أو لأجل ذاته فقط، وحتى يعيش الإنسان حياته يجب أن يعيش مع الجميع ومن أجل الجميع، يعيش حباً معهم وفيهم، بذلك تتوحد القلوب على أرض واحدة وفي وطن واحد.
فما معنى أن نتعايش؟ ولماذا نتعايش؟ وكيف نتعايش في وطن واحد وسط ثقافات متعددة وديانات سماوية متنوعة؟ وهل التعايش بين الأفراد في وطن واحد يلغي خصوصية كل فرد؟ وإن لغى الإنسان فكرة التعايش مع الآخر فهل يستبدل عوضاً عن ذلك العزلة؟ وإذا كنا نرفض اللجوء إلى العزلة يعني أننا نتقبل التعايش، وهذا يعني أننا نحتاج إلى هذا التعايش بسماته ومميزاته اللتين لا يفقد الإنسان من خلالهما ذاته وهويته، فهو يخلق بين الأفراد على المساحة الجغرافية التي يسكنوها مساحة مشتركة، مساحة من الوعي والثقافة، مساحة من تبادل المنافع المعرفية والانتماء للأرض التي يعيشون عليها، سواء كانوا مسلمين أو من الديانات الأخرى، فالديانات السماوية مصدرها هو الله سبحانه وتعالى، وهدفها واحد وهو عبودية الله، وطريقها إلى قلب الإنسان واحد وهو الإيمان، وغايتها واحدة وهو الإنسان.. الإنسان في كل مكان على الأرض التي خلقها الله ليعمرها ويستفيد منها ويتعايش منها وعليها، ولكي يتعايش الإنسان مع الآخرين من البشر المختلفين معه في الدين أو اللغة أو الهوية عليه أن يؤسس أرضية صلبة تكون جسراً للعيش معهم، وحين يعيش معهم فإنه لن يفقد هويته ولن تذوب خصائصه، فإذا كانت اللغة هي العائق بين البشر فسيكون التعايش لغتهم، وإن اختلفوا في نوع الدين فالعبادة توحدهم، وإن اختلفت وسائل الاقتراب إلى الله فالإيمان صراطهم.
بالرجوع إلى التعايش في اللغة، نجد مصطلحه من اشتقاق ''تعايشوا.. وعاشوا على الألفة والمودة، ومنه التعايش السلمي، وعايشه أي عاش معه، والعيش معناه الحياة''. وعلى المستوى السياسي والعقائدي والمجتمعي يمكن تصنيف التعايش إلى مستويات ثلاثة؛ الأول سياسي أيديولوجي، يحمل معنى الحد من الصراع أو ترويض الخلاف العقائدي بين المعسكر الغربي والاشتراكي في المرحلة السابقة، أو العمل على احتوائه أو التحكم في إدارته، والثاني اقتصادي يرمز إلى علاقات التعاون بين الحكومات والشعوب، والثالث ديني ثقافي حضاري يهدف إلى التقاء إرادة الإنسان بما يعتقد من الأديان وينتمي إلى الحضارات المختلفة في العمل معاً من أجل أن يسود السلام والأمن على الأرض، لكي تعيش الإنسانية في مناخ من الإخاء والتعاون، وليعم الخير والفلاح بني البشر جميعاً.
إذاً فالتعايش هو اتفاق أفراد المجتمع بأديانهم ولغاتهم وحضاراتهم وثقافاتهم وبخصوصياتهم على تنظيم وسائل العيش معاً على أرض واحدة، أي تنظيم حياتهم فيما بينهم، وإذا كان الاختلاف سنة كونية يجب أن نحترمها فإن التعايش ضرورة من ضرورات الحياة لابد أن نتمسك بها، وإذا كان الاختلاف يقرب بين رؤانا فإن التعايش يجعل من حياتنا ربيعاً دائماً.
وبفضل وجود الإنترنت أصبح العالم أشبه بالقرية الصغيرة، وسهلت عملية التواصل والتعارف بين البشر، واختصرت السنين بثوانٍ، وضاعفت الاستزادة بالمعلومات، وهذه المعطيات سهلت كثيراً من سهولة التفاهم والتعايش المشترك بين أبناء البشر، وجميع الأديان لا تنكر غيرها بل جميعها تشجع التعايش، ففي تاريخنا الإسلامي كثير من هذه المواقف؛ فقد عقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العهود والمواثيق مع اليهود التي تضع أسس التعايش المشترك مع الاحتفاظ بدينهم وبشريعتهم التوراتية التي جاء بها النبي موسى عليه السلام، كما تعامل الخلفاء الراشدون والصحابة رضوان الله عليهم مع النصارى واحترموا عقيدتهم السماوية التي جاء بها النبي عيسى عليه السلام، إضافة إلى أن الإسلام أوجب الإيمان بجميع الرسل وعدم التفرقة بينهم، وذلك في قوله تعالى (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله)، كذلك فالثقافة والحضارة الإسلامية منفتحتان على حضارات الأمم ومتجاوبتان مع ثقافات الشعوب، وهذه من الأسس الثابتة التي تقوم عليها علاقة المسلم مع أهل الأديان السماوية. وقد جسدت مملكة البحرين مبادئ وأسس التعايش الكريم بين جميع القاطنين على أرضها، ومنها ممارسة حرية الأديان، عدم التفريق بين الناس بسبب الدين والإثنية، توفير الحماية والأمن والحرية للجميع تحت ظل وسيادة القانون، وهذا ما أدى إلى أن تصبح البحرين مملكة للتسامح بين الأفراد وسبيلاً للتعايش السلمي بين أبناء البشر، يتمسك الجميع على أرضها بالقواسم المشتركة التي تشعرهم بالتعايش الحقيقي الذي لا يبعد مصلحة الفرد عن مصلحة الجماعة، بحيث يصبح الأفراد فرداً واحداً، جسداً وقلباً
الزعيم الروحي للجمعيه