يحدث الصبي ذو السنوات العشر صخبًا في فصل المدرسة الخاصة فتنهره المعلمة ، لكنه لا ينتهر ولا تحمر أذناه إنما ينظر في عينيها بتحد، ويقول ضاغطًا على كل كلمة من كلماته
ـ"انت مش عارفة بتكلمي مين .. .. إنت نسيتي إن أهلي هما اللي بيدفعوا لك المرتب ؟.. وحياة أمي بكرة مش حتشتغلي في المدرسة دي !!"ـ
تصاب المعلمة الشابة حديثة الخبرة بحالة جنون هستيري ممزوج بالدموع، وتقتاد الصبي إلى مدير المدرسة الذي يتصل بأبيه .. طبعًا كلنا يعرف بقية القصة .. الأب (مراد بيه) يأتي للمدرسة وينهال تقريعًا على المدرسة والمدير أمام ابنه ومن تيسر من تلاميذ أو عمال، ويكرر ما قاله ابنه من أن كل هؤلاء يتقاضون رواتبهم من جيبه، والأغرب هو أن شيئًا لا يحدث للصبي على الإطلاق .. فقط تطلب المعلمة أن يتم نقلها فلا تدرس لهذا الفصل ثانية .. أي أن تهديد الطفل قد تحقق بشكل ما لو أردت أن تأخذ الأمور بشكل متشائم
من هو (مراد بيه) ؟.. هو شخصية ذات نفوذ وإن كان أحد لا يعرف مصدر نفوذه بالضبط.. ترى على ملامحه ذلك المزيج الفريد من الصفاقة والغلظة والغرور الذي يفوق الحد، وقد تعلم تلك النظرة البوليسية الموحية بالأهوال والتي تقول: "إنت مش عارف بتكلم مين".. يجيد إلقاءها وهو يفتح باب سيارته المرسيدس ليتشاجر مع هذا أو ذاك
لقد تغلغل (مراد بيه) في حياتنا إلى حد غير مسبوق .. سيطر على كل مكان وكل مرفق .. إنها الروح القبلية التي تضخمت في مجتمعنا والاستهانة بالقانون .. ما دمنا نحن من يرتكب الأخطاء ونؤذي فكل شيء على ما يرام والحياة حلوة. الجرم كل الجرم أن تُؤذى بفتح الذال
مصر قد تحولت اليوم إلى فصل كبير من فصول هذه المدرسة الخاصة .. فصل لا يحترم أحدًا ويزرع في عقول أطفاله أن عدم احترام القانون هو جزء من السمو الاجتماعي .. نحن أكبر من المدرس .. أكبر من القانون .. الضعفاء والفقراء فقط هم من يحترمون المدرس ورجل الشرطة ويقفون في الصف، بينما نحن سادة (بنو مخزوم) ومن يجرؤ على اعتراضنا ميت
الأمثلة على ذلك كثيرة، وفي جعبة كل منا العشرات منها، لكني على سبيل المثال لا الحصر أذكر موضوع تقاطع شارعي (بطرس) و(سعيد) الذي يعرفه كل من يسكن في مدينة طنطا .. منذ أعوام وعند الثامنة مساء تقريبًا تلتقي في هذا الموضع عشرات من سيارات الشباب .. تراهم يسدون الطريق سدًا ويقفون خارج سياراتهم وأبوابها الأربعة مفتوحة، وموسيقا الكاسيت عالية جدًا وهم يتبادلون المزاح البذيء .. فلا يستطيع من يريد المرور عمل ذلك إلا بصعوبة وبعد ضغط آلة التنبيه عشرات المرات إلى أن يتنازل أحدهم ويغلق بابًا في قرف شديد، أما الفتيات فقد تعلمن أن يتجنبن هذا التقاطع بأي ثمن .. الملحوظة المهمة هي أن أغلب لوحات السيارات تحمل رقمين أو ثلاثة لا أكثر، وهناك عدد من النسور واللوحات السود والزجاج الفيميه .. بينما يقف شرطي مرور ريفي بائس من طراز (يا سنة سوخة) على بعد ثلاثة أمتار منهم عاجزًا عن عمل شيء، فيكتفي بالتعرض لسيارات الأجرة .. هو لا يريد أن يجازف، ولابد أنه يذكر أمثلة كثيرة لزملاء له فشلوا في تبديد هذه المظاهرة أو عوقبوا .. وكل سائق أجرة يعرف أنه من المستحيل تفرقة هؤلاء لأن كل واحد فيهم ابن اللواء (مراد بيه) أو ابن المستشار (مراد بيه).. ونحن نعرف كيف ينتهي كل كمين شرطة ببضع مكالمات بالموبايل .. و(كلم مراد بيه على التليفون).. فإذا رفض الضابط أن يضع الموبايل على أذنه، صاح الفتى في السماعة: يا مراد بيه .. الضابط مش عاوز يكلمك .. هكذا يتلقى الضابط المغتاظ المكالمة واللوم ويعيد الرخصة للفتى .. حبة جديدة تضاف لمسبحة غرور الفتى وثقته بأنه فوق أي قانون، وقصة جديدة يتفاخر بها في قعدات البانجو
سيارة تتوقف في مكان ممنوع وحساس أمنيًا بالمطار، فيعترض رجل الشرطة، هنا يخرج من السيارة رجل ضخم فخيم يلوح بالموبايل وينزع نظارته السوداء ليسمح للنظرة الأمنية الثاقبة بالخروج، ويقول للشرطي بلهجة تهديد: "أنا المستشار مراد كذا " .. برغم أن كلمة (مستشار) توجب عليه – كي يستحقها – أن يضرب المثل في احترام القانون .. وبالطبع يمتثل الشرطي البائس ويتراجع .. هو الغلبان الذي أفطر فجلاً وتغدى عدسًا .. هو القادم من (دشنة) ولو لم يأت البوكس ليحمله في نهاية الوردية لما عرف كيف يعود ولمات جوعًا
وفي (مارينا) منذ أعوام - كما قالت الصحف - أوقف شاب يبغي استعراض القوة سيارته بالعرض لتسد شارعًا رئيسًا، فتبقى السيارة حيث هي أربع ساعات لأن أحدًا لم يجرؤ على استدعاء الونش لجرها .. ما دام الفتى قد فعل هذا، فهو على الأرجح ابن (مراد بيه).. مراد بيه الذي قد يكون وزيرًا أو عضو مجلس شورى أو لواءا كبيرًا في الداخلية، أو ربما هو صاحب مارينا نفسه
المستوى الآخر الذي بلغته المشكلة هو الادعاء .. كل الناس تعلمت كيف تتصنع أنها تمت بصلة لـ (مراد بيه).. لي صديق متأنق يجيد التمثيل، ويعرف في كل كمين مروري كيف يدعي أنه المستشار (مراد كذا) .. وقد ساعده الملصق الموضوع على زجاج سيارته والذي لا ينوي أن ينتزعه أبدًا .. صارحته بأنها مخاطرة وأنه لو طلب منه رجل الشرطة هويته لوجد نفسه في مأزق، فقال في ثقة إن هذا مستحيل .. لا أحد يجرؤ على طلب هوية (مراد بيه).. دعك من تلك النظرة الأمنية الغامضة التي تعلمها من أفلام (مراكز القوى)ـ
إنه ذلك الإحساس بعدم فعالية القانون، وأن هناك طبقة فوقه، وأن إجراءات التقاضي بطيئة، فإن تمت صار لديك حكم لا جدوى منه وعليك أن (تبله وتشرب ميته).. وكما يقول الغربيون: إن لم تستطع هزيمتهم فلتنضم لهم .. لا جدوى من هزيمة هؤلاء الذين صاروا يملكون مصر فعلاً، فلا مناص من الانضمام لهم بشكل ما .. عن طريق ابنك .. عن طريق النسب .. عن طريق المماحكة.. عن طريق لوحة سيارة عليها رقمان أو ثلاثة لا تقبل أن تبيعها مهما عرض عليك من مال
هناك حل آخر هو البلطجة .. بعض الناس سيأخذون حقهم بأيديهم ما دام القانون لن يعيده لهم .. منذ أيام استعمل أحد رؤساء الأحزاب -أستاذ قانون- مجموعة من البلطجية يقتحم بهم مقر الحزب، لأنه امتلك حكمًا لا يستطيع تنفيذه وهو مؤشر خطير جدًا على تراجع سلطة القانون واحترامه. أعتقد أن حوادث العنف سوف تتزايد باستمرار مع نمو هذه الطبقة وتنامي سلطة (مراد بيه).. من لا يملكون مراد بيه سوف يلجئون إلى (سوكة) و(سيد سوابق)ـ
لماذا تتسابق الأسر على أن يدخل أبناؤها كلية الشرطة ؟.. هناك أسباب كثيرة لكن أهمها أنها تريد أن تملك (مراد بيه) الخاص بها والذي تخالف به القوانين .. ولتحقيق هذا تتصل بـ (مراد بيه) آخر ليسهل لها أن يصير ابنها (مراد بيه).. كل أسرة تريد أن يكون عندها وكيل النيابة والمستشار فإن لم تجد واحدًا ناسبته أو تمحكت في قريب بعيد .. هكذا تستطيع أن تخالف القانون كما تشاء .. وترى السيدة تحدثك في فخر عن قرابتها لـ (مراد بيه) في الجمارك و(مراد بيه) في أمن الدولة و(مراد بيه) في دار القضاء العالي و(مراد بيه) في قسم (الساحل).. حتى كأنها من هواة جمع الطوابع تحدثك عن مجموعتها الخاصة من الـ (مراد بيهات)ـ
والمشكلة في مصر أن الأمر تجاوز مجرد لذة قهر الجيران .. إن النجاح الاجتماعي صار يقترن اقترانًا قويًا بالقدرة على خرق القوانين .. مش إحنا .. لقد تعبت كثيرًا حتى أبلغ مكانة تسمح لي بمخالفة القانون ولن أسمح لواحد من العامة بأن يحاسبني
لقد وصل الدرس كاملاً إلى ابن (مراد بيه) وإلى كل طفل في ذات الصف معه .. إلام سيصير هذا الصبي ؟.. وإلام سيصير زملاؤه الذين رأوا المواجهة بين قيمة العلم والاحترام وقيمة النفوذ والبلطجة وعرفوا بوضوح من الفائز .. ؟.. إلام سيصير الجميع بعد عشر سنوات؟.. لا أتمنى أن أكون موجودًا لأعرف
مقال:عصر مراد بيه.
د. أحمد خالد توفيق