اعتمدت السلطات البريطانية في مصر على ادارة من الاشخاص ذوي الخبرة في التعامل مع المجتمعات المسلمة، والتي اكتسبوها من خدمتهم السابقة في الهند. من اولئك "الخبراء" كان ايڤلين بارينج او كما اشتهر لاحقا باسم اللورد كرومر.
من عائلة تنتمى لأصول ألمانية، ولكنه التحق بالأكاديمية العسكرية الملكية البريطانية في عمر الرابعة عشرة، ليتخرج في سن السابعة عشرة برتبة ملازم في سلاح المدفعية الملكية، ويذهب للخدمة في الهند. وقد جاء إلى مصر عام 1878م ضمن لجنة المراقبة المالية الثنائية، وبعد استقرار الامور في مصر بنفي العرابيين وعودة الخديوي توفيق لقصر عابدين عام 1882م تم تعيينه في منصب المعتمد البريطاني في مصر والذي استجدته الادارة الانجليزية لتنفيذ السياسة لاستعمارية لحكم مصر بدقة. ولأن المسلمين في الهند يختلفون عن مصر، فكان يجب على كرومر منذ ان جاء الى القاهرة أن يفهم البيئة المحيطة ومعطياتها وعليه يحدد السياسة العامة التي سيتعامل بها لاخضاع ذلك الجزء للسياسة البريطانية والحكم الانجليزي لفترة طويلة دون مشاكل. وتلخصت سياسته كالتالي:
- ان الاسلام دين مناف للمدنية الحديثة، لم يكن صالحًا إلا للبيئة والزمان الذين وجد فيهما. ولصلاحيته للوقت الحالي يجب ان يعاد النظر في كثير من افكاره وشعائره وشريعته ومعاملاته. كذلك لابد من مراجعة كثير من ايات القرآن الكريم وإعادة صياغتها في صورة جديدة، وان شق على المسلمين ذلك، فليعيدوا النظر في تفسيرها ولينتشر ذلك على اوسع نطاق.
- ان الشباب المصري اذا اراد ان ياخذ باسباب الحضارة عليه ان يتمسك بالتقاليد الانجليزية ويطلب العلم طبقا لمناهج التعليم الانجليزية ويتعلم اللغة الانجليزية ويتعامل بها، فانجلترا انما جائت لتمنح مصر الحضارة والرقي.
- ساهم في خلق طبقة جديدة في المجتمع مع "المتفرنجين" او من اعتنقوا الثقافة الاوروبية قلبا وقالبا، وطالب بمنحهم وظائف عليا ورواتب مجزية ليكونوا قدوه لكل من أراد العيش الكريم في مصر. اما عامة الناس فلا يجب أن تتجاوز مراحلهم التعليمية الا الاوليه فقط، فلا طائل من تعليمهم لمراحل عالية، لأن الفائدة منهم لن تكون كبيرة، او لا فائدة من الأساس.
- كذلك دعا إلى عدم التمسك باللغة العربية، وتطوير اللغة المحكية في مصر (العامية المصرية) لتكون لغة مستقلة لها قواعد ومفردات بخلاف اللغة الفصحى، ومن ثم تستخدم في الصحف والادب والدواوين الى جانب اللغة الإنجليزية، ويكتب بها الدستور والقوانين، ولا تكون مجرد لهجة محكية بين الناس.
- تطوير المفهوم الوطني لدى المصريين، فلا يكون اندفاعا عاطفيًا متعلقا بالدين والاسلام أو الرابطة العربية، وإنما تقوم على سياسة المصالح القومية التي تعلي من شأن مصر على حساب السلطنة (ذكر هذا تفصيلا ردا على دعم المصريين لموقف السلطان عبد الحميد خلال ازمة طابا عام 1906).
ولكن سياسته (التي كتب عنها تفصيلا في مذكراته) لم تنجح بسبب تمسك المصريين بالحركة الوطنية ورفضهم الاستكانه. الحركة الوطنية التي واجهت الاحتلال في ثلاث موجات قاسية الى ان اضطر الانجليز للاعتراف باستقلال مصر عام 1922م (الاعلان احادي الجانب). لتتغير بعد ذلك سياستهم الاستعمارية اكثر من مرة.. كما سيأتي بيانه..
#وقال_الراوي