#قصة_وعبرة
*
من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا
*
آخر الشهر .. لم أكن أتصور أن شهادة وفاة صاحب الشركة التي عملت بها طوال الثلاثين عامًا الماضية هي شهادة وفاتي أنا أيضًا !
فبعد أن تولَّى ابنه هيثم مقاليد إدارة الشركة
كانت أول قراراته التخلص مني وطردي إلى الشارع ..
؛ فهو لم ينسَ ذلك الموقف القديم .. حين اكتشفت تحويله أموالًا من حسابات الشركة إلى حسابه الخاص .. دون علم أبيه وطلب مني عدم إخباره ..
وأنا لم أقبل إلا باطلاع أبيه من باب الأمانة ،
وها أنا أدفع الثمن ، ثمن الأمانة !
ماذا أفعل ... ؟
بعد أن كانت كل مشكلتي في شح المال أواخر الشهر لأعيش باقي حياتي بانتظار أول الشهر الذي يليه ..
وها أنا في آخر الشهر ، ولن يختلف عن أول الشهر التالي ..
ولدي الكبير في كلية الطب يحتاج إلى مراجع باهظة الثمن ووعدته في أول الشهر ..
ابنتي أرادت ملابس جديدة للشتاء ووعدتها في أول الشهر ..
ولدي الصغير في الثانوية العامة ودروسه الخاصة تدفع أول الشهر ..
حساب الماء والكهرباء والبقال وغيرهم ..
يا إلهي .. الصيدلية ...
دوائي ، ودواء زوجتي لقد أصبحت بلا تأمين صحي ..
ماذا إذا مرض أحد الأبناء ؟
أهذا ثمن خدمة السنين بأمانة وإخلاص ،
بعد أن شاب الشعر وخارت القوى أعود لنقطة الصفر !
لم أشعر إلا وأنا واقف أمام البنك ..
هنا وضع صاحب الشركة أكثر من مائة ألف جنيه باسمي خارج حسابات الشركة لأصرف منها على بعض أموره في غيابه ..
هذا ثمن الغدر ، هذا المال حقي وحق أولادي ، حق خدمة السنين ، يالها من فرصة سانحة !
صرفت المال وانصرفت من البنك أجول بحقيبة مال هي تذكرة الأمان لأسرتي ..
ولكني .. برغم ذلك أصبحت أتعس من مجرد عاطل ..
لقد أصبحت خائنًا ولصًّا، رأسي محنيٌّ من الخزي والعار ..
لا لا لا ...
أنا لم ولن أكون ذلك الرجل الملوَّث في آخر أيامه ..
لن تنهزم عزتي بشرفي ولو أكلنا الخبز الجاف من كدّ يدي وعرق جبيني ..
خير لنا من كل ما لذ وطاب من إثمي وسوء عملي ..
أنهيت كلماتي مع نفسي وأنا أقف أمام باب الشركة .. لأدخل بسرعة خشية أن تخور إرادتي مرة أخرى ..
وأتجّه إلى من ظلمني أدخل عليه دون أن استأذن ..
لأجده جالسًا والدهشة تملأ وجهه وهو يمسك ..
بورقة في يده...
علمت بعد ذلك أنها خطاب من والده له ..
وضعت المال في هدوء أمامه
وحكيت قصته والدهشة تزداد على وجهه
وعيناه حائرتان بين المال والورقة
وهممت بالخروج ..
وأنا في قمة الفخر .. وشدة الحزن
وأطياف أبنائي وهم في انتظاري
عند أول الشهر يمدون أيديهم لي ..
ليوقفني نداء هيثم المليء بالحزن ....
"انتظر يا عم صلاح"
ألتفتُّ إليه لأتفاجأ بوجه بشوش مبتسم
ويمد يده بالورقة لأتناولها وأقرأ ما بها....
( ولدي العزيز
أعرف أن أول قراراتك هي طرد عمك صلاح من العمل ..
فأنت تكرهُه منذ أن أفشى سرَّك لي .. وكان الأجدر أن تحترمه لأمانته ..
اعلم يا بني أنك الخاسر ..
إن لم يعد صلاح إليك مرة أخرى ..
ولكن .. إن عاد وهذا ظني به ..
فسوف يعود ليعطيك درسًا قاسيًا ..
حينها أعطِه الشيك المرفق بالخطاب واعلم إنه كان رفيق دربي وكفاحي لنصنع لك هذه الشركة الكبيرة ) .
أجهشت في البكاء مع آخر كلمات الخطاب
وأقبل هيثم يحتضنني بقوة .. وهو يردد : " أنا آسف يا عم صلاح "
وأعطاني الشيك ..
الذي وجدته أضعاف ما راودتني نفسي أن اختلسه ..
نعم إن المبلغ المحرر في الشيك يكفيني ما أستطيع به .. أن أكمل باقي عمري في عزّة وأوَدِّع أيام آخر الشهر للأبد ..
بقلم ..الأستاذ محمد الحريري
حقًّا .. من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه ..
أسعد الله أوقاتكم بكل خير