متى تندمل الجراح الانتخابية قبل أن تتقيَّح؟
من يتابع ما ينشر ويذاع محلياً وإقليمياً حول انتخابات 2010 ونتائجها، ويتأمل فيما يدلو به من فاز ومن لم يحالفه الحظ، يكتشف ودون الحاجة إلى بذل جهود تذكر، أن هناك ما يشبه الغصة في الأحاديث التي يدلو بها ممثلو قوى التيار الوطني الديمقراطي، في سياق تفسيرهم أو تعليلهم لما أسفرت عنه تجربة خوض انتخابات 2010 البرلمانية.
وتبلغ الأمور أقصاها عندما يضطر البعض منهم إلى استرجاع التاريخ والاستعانة به على هيئة إسقاطات لا تضيف للتجربة الحالية أية نقاط إيجابية، بقدر مساهماتها في إذكاء أشكال قديمة من أسباب الخلافات، التي كانت حينها تمزق صفوف قوى العمل السياسي البحريني.
الحقيقة المرة التي مازال المواطن المدافع أو المنتسب للتيار الوطني الديمقراطي مرغماً على تجرعها، هي أن خلافات الماضي بين قواه لاتزال تسيطر، ومن ثم تسير، علاقات الحاضر القائمة بين جمعياته، لكن بآليات الماضي وذهنيته. وإن كانت للظروف التاريخية التي حكمت تلك العلاقة، وأنبتت تلك الخلافات، ما يبررها، فإن القوانين التي تسيطر على حركة العاملين فوق مسرح العمل السياسي البحريني اليوم، تجرد فصائل التيار الوطني الديمقراطي من أي حق في استمرار فعل عناصر الطرد التي توجه العلاقات المتبادلة فيما بينها، ومن ثم وصولها إلى مرحلة تناحرية، بدلاً من احتفاظها بصفة الاختلافات الاجتهادية.
فإن كان للقوى القومية التي انسلخ «التجمع القومي» من جلدها، علاقاتها العربية المتينة التي أرغمته حينها على تغليب القومي على ما هو وطني، فإن تغير الظروف العربية وتراجع المد القومي يعطي اليوم لـ «لتجمع القومي» مساحة واسعة من الحرية تبيح له، إن هو شاء، نسج تحالفات وطنية راسخة لا تقلقها متطلبات العمل القومي، ولا تضعها في جبهة مواجهة مع القوى الأخرى المنتسبة لذلك التيار.
ولعل في سقوط الأنظمة القومية، وفشل تجاربها في إدارة السلطة وفقاً لما كان تدعو له برامجها القومية، درساً بليغاً في إحداث التوازن المطلوب بين الأهمية التي ينبغي أن ينعم بها ما هو قومي مقابل ذلك الوطني.
ولا يختلف الأمر عند الحديث عن جمعية المنبر التقدمي، ذات الجذور العلمانية المتحالفة مع الكتلة السوفياتية السابقة، ممثلة حينها في «جبهة التحرير الوطني» والتي كانت تضع (أي تلك التحالفات) في معاصم «جبهة التحرير» قيوداً عالمية ترجع، في أحيان كثيرة، المطالب الوطنية إلى الخانات الثانوية، وتضع، وهو أمر منطقي مفهوم انسجاماً مع الظروف القائمة حينها وصيغة التحالفات الفاعلة في تلك المرحلة، الأممي في المقدمة كي يزيح الوطني من مقدمة الأولويات، ويرغمه على القبوع في المربعات الثانوية. أما اليوم، وبعد تفكك الكتلة السوفياتية، واستقلالية أحزاب الحركة الشيوعية العالمية التي كان يقودها الاتحاد السوفياتي، لم يعد من المبرر أن نجد أية عوائق منطقية تحول دون لقاء «المنبر» وعلى أسس إستراتيجية مع قوى التيار الأخرى.
وليست جمعية العمل الوطني الديمقراطي «وعد»، وهي المنحدرة من صلب «الجبهة الشعبية في البحرين» بعيدة عن تينك الحالتين، فقد كانت التحالفات التي نسجتها مع العديد من أطراف ما كان يعرف باسم «اليسار الجديد»، الذي حاول أن يجد لنفسه موقعاً صحيحاً في حركة علمانية عالمية بعيدة عن التسلط السوفياتي الذي قارب في سلوكه من السياسات الاستعمارية، وغير تابعة للخط الشيوعي الصيني المنافس للكتلة السوفياتية، والذي لم يكن يختلف عنها سوى في من يسيطر على الحركة الشيوعية العالمية ويسخر نضالاتها لما يخدم مصالح الصين القومية. أما اليوم، ومع تبعثر حركة ذلك اليسار الجديد، وانحراف البعض منها وتنكره لما كان يدعو له، وغياب قطب عالمي قادر على إحداث التجديد المطلوب في الفكر الماركسي، فلم يعد من حق «وعد» أن تغلب أي مما هو غير وطني على الوطني.
تأسيساً على كل ذلك، ومن أجل سعي القوى الثلاث كي تندمل الجراح التي فتحتها انتخابات 2010 والنتائج التي أسفرت عنها، يطمح المواطن أن يرى التنظيمات الثلاثة ساعية إلى وضع أقدامها على طريق التأسيس لبلورة تيار وطني ديمقراطي سليم، وبمعالمه الواضحة الصريحة من خلال:
1. التعالي فوق جراحها، والعض عليها، وترك الماضي والنظر نحو المستقبل، دون اجترار ما جاء في تصريح صحافي هنا، أو سمع من قول هناك، والتوجه نحو بعضهم البعض يحملون في أيديهم صفحات بيضاء ناصعة يدونون عليها برامج المستقبل، عوضاً عن تسميع، أو إعادة لوك حادث الماضي.
وللمرة الألف، ليست هذه تمنيات طوباوية تتحدث عن حلم غير قابل للتحقيق، بقدر ما هي مواجهة دعوة صادقة، لمن يريد، من تلك التنظيمات، أن يكون منسجماً مع نفسه أولاً، ومخلصاً لجماهيره ثانياً، ونافضاً أحمال المرحلة التاريخية السابقة ثالثاً، وليس أخيراً.
2. قراءة مسار الانتخابات، بتجرد سياسي ناضج، بعيداً عن الانفعالات الذاتية التي ولدتها وقائع الانتخابات ونتائجها. ومن الطبيعي والمهم أيضاً أن تشمل تلك القراءة فيما تشمل، البرامج الوطنية لكل من تلك التنظيمات، وبرامج التحالفات التي فرضتها.
ولابد لهذه القراءة، إن هي شاءت أن تكون نتائجها مثمرة، ولصالح خط التيار الوطني الديمقراطي وجماهيره، أن تبتعد هي الأخرى عن التفتيش الضيق الأفق في ملفات الماضي، من أجل نبشها، على نحو سيء. إن من يقوم بذلك يكون، كما يقول المثل البريطاني، كمن يفتح علبة مليئة بالدود (Opening a can of Worms)، حيث لن ينوبه منها سوى عفونتها.
لقد سئم المواطن من الانتظار، وتكاد الجروح أن تتقيَّح وهي في انتظار أيدٍ مخلصة تعينها على أن تندمل قبل أن تتحول إلى صديد يتسرب إلى أعضاء الجسم فيشل حركتها، ويصل إلى العقول فيسمّمها، وتصعب حينها إزالته أو التخلص منه، دع عنك علاجه.
عبيدلي العبيدلي
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 2999 - الإثنين 22 نوفمبر 2010م الموافق 16 ذي الحجة 1431هـ