السياسات الأمريكية ورهان العاجز
توطئة:
لعبت الولايات المتحدة الأمريكية في أعقاب الحرب العالمية الثانية دوراً محورياً في السياسة الدولية، وقد ازداد هذا الدور أهمية ومركزية بعد تفكيك الاتحاد السوفياتي وتلاشي منظومة الدول الاشتراكية ممثلة في حلف وارسو، وإثر ذلك تفردت الولايات المتحدة في قيادة العالم بما يعرف بالعالم أحادي القطب، فأصبح العالم بأسره محكوم نسبياً بنتائج الانتخابات الأمريكية وما ينتج عنها من تغييرات في السياسات والتوجهات الاقتصادية والعسكرية والسياسية للإدارة الجديدة، هذا الواقع ينعكس بصورة مباشرة على واقع الشرق الأوسط ووملامح التعاطي الأمريكي مع الصراع العربي الصهيوني، بما يفرض على الأطراف كافة في معادلة الصراع فهم الواقع السياسي الأمريكي، ووضع السياسات الملائمة للتعامل معه بما يحقق أهداف وغايات كل طرف من الأطراف.
الثابت والمتغير في السياسة الأمريكية:
يتوالى على سدة الحكم في الولايات المتحدة الحزبان الكبيرات الجمهوري والديمقراطي، حيث يتغير طاقم الإدارة الأمريكية بصورة كاملة إذا ما تغير الحزب الحاكم، هذا التغير يتبعه عادة تغير في السياسات رغم تلاشي الفروق الجوهرية في العقيدة السياسية والتوجهات بين الحزبين، إذ إن شخصية الرئيس وطاقمه وتوجهاتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية تنعكس بصورة كبيرة على مجمل سياسات الإدارة، ولعل أكثر السياسات ذات الأثر على الناخب الأمريكي تلك المتعلقة بالواقع الداخلي كأنظمة الضمان الاجتماعي والضرائب والسياسات الاقتصادية وهي الأكثر ترشيحاً للتغيير في المزاج الانتخابي.
أما على صعيد السياسة الخارجية: فإنها محكومة بالمصالح الجوهرية للولايات المتحدة، وأي تغيير في السياسات فإنه محكوم في إطار ثبات المصالح الأمريكية في العالم، ومقيد أيضاً بالاعتبارات الداخلية في المجتمع الأمريكي وتأثير جماعات الضغط فيها.
السياسة الأمريكية الدولية تقوم على مصالح أهمها تعزيز مكانتها العالمية بما يحفظ لها الريادة في قيادة العالم، بحيث تحافظ على بقاء أمريكا القطب الواحد مهيمناً على السياسة والاقتصاد العالمي، والإبقاء على حالة التفوق العسكري بتطوير أنظمة دفاعية وعسكرية تضمن لها السيطرة وتعمل على تحييد القدرات العسكرية للدول الكبرى الأخرى في العالم.
أما على صعيد السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط: فتقوم على أربع مصالح حيوية هي:
1- البترول: حيث يمثل الشرق الأوسط وخاصة دول الخليج العربي مصدر البترول الرئيس للولايات المتحدة، وذلك يمثل شريان الحياة للنشاط الاقتصادي الأمريكي في العالم، حيث تستهلك الآلة الأمريكية 30% من النفط في العالم رغم أن نسبة سكانها لا تزيد عن 6% من السكان ، كما أن النفط هو السلعة العالمية الأكثر رواجاً، ولا يوجد له بديل في عهد السلام وله أهمية استراتيجية بالغة في زمن الحرب.
2- الممرات المائية: يتحكم الشرق الأوسط بمجموعة من أهم الممرات المائية في العالم منها البحر المتوسط والبحر الأحمر والخليج العربي، هذا إذا ما استثنينا تركيا، مما يزيد من أهمية المنطقة عسكرياً واستراتيجياً واقتصادياً، إذ أن معظم تجارة النفط وغيره تمره من خلال هذه الممرات المائية.
3- المحافظة على أمن الكيان الصهيوني ووجوده وتفوقه في مختلف المجالات، باعتباره القاعدة الغربية المتقدمة في الشرق الأوسط، وخاصة بعدما تقلدت الولايات المتحدة قيادة الاستعمار الغربي في العالم من بريطانيا التي كانت تتزعم التيار الإنجلو سكسوني.
4- اعتبار المنطقة وخلصة دول الخليج سوقاً للبضائع الأمريكية ، تضمن دوران آلة الصناعة الأمريكية، وتعتبر المنطقة أكبر مستورد للسلاح الأمريكي، الذي ترتبط به العديد من الصناعات الأساسية والتحويلية والتكنولوجية.
وقد انبنى على هذه المصالح سياسات أمريكية ثابتة في المنطقة أهمها:
1- إيجاد تحالفات استراتيجية في المنطقة تعمل على حماية مصالح الولايات المتحدة وتساعدها على بلوغها وتمثل قاعدة متقدمة للولايات المتحدة في المنطقة، وأكثر دول المنطقة ذات الأفضلية أمريكياً هي الكيان الصهيوني، إلا أن الولايات المتحدة تحرص على استمرار تحالفها مع مصر واستمرار مساعداتها لمصر بما يوازي المساعدات الأمريكية المقدم للكيان الصهيوني تقريباً، بما يضمن بقاء مصر في فلك السياسة الأمريكية في المنطقة.
2- ضمان حرية الملاحة في الممرات المائية للسفن الحربية والتجارية الأمريكية، وهذا واحد من مبررات وجود القوات الأمريكية في مياه الخليج والبحر الأحمر منذ الحرب العراقية الإيرانية.
3- ضمان الاستقرار في المنطقة بحيث لا يتحول أي نزاع عربي صهيوني إلى حرب إقليمية شاملة، باعتبار أن ذلك سيؤدي إلى تهديد المصالح الحيوية للولايات المتحدة في المنطقة.
أما السياسيات المتغيرة فتتعلق بالوسائل والآليات وطرق العمل التي تسهم في تحقيق المصالح الأمريكية الحيوية أو تلك المصالح الجزئية المرتبطة بها، وفي هذا السياق يندرج استخدام وسائل الضغط الاقتصادي والسياسي والعسكري التي تمارسها الولايات المتحدة لأهداف محددة، وكذلك المبادرات السياسية والتكتيكات التفاوضية المتعلقة بمختلف القضايا، وذلك وفقاً لرؤية الفريق الذي يدير أزمة الشرق الأوسط في الإدارة الأمريكية.
السياسة الأمريكية بين كلينتون وبوش:
بلغ التورط الأمريكي في الصراع العربي الصهيوني أوجه في عهد الرئيس الأمريكي كلنتون، حيث أصبحت عملة التسوية في المنطقة على رأس أولويات السياسية الخارجية الأمريكية، فتم توقيع كافة الاتفاقات السياسية لتسوية الصراع في ظل إشراف ورعاية كلنتون وإدارته، وبلغت تلك الجهود ذروتها في قمة كامب ديفيد (2) في محاولة منه لإنهاء الصراع، وختم كلنتون جهوده بما عرف بورقة كلنتون نهاية حكم باراك.
خلال تلك السنوات استخدمت الولايات المتحدة كل الوسائل التي لديها لفرض تسوية سلمية تنهي عقوداً من الصراع العربي الصهيوني، ولم تفض تلك الجهود الكبيرة وبتدخل مباشر من كلينتون شخصياً إلا إلى اتفاقات جزئية ذات طابع أمني في الأساس، وقد وصلت تلك الجهود إلى طريق مسدود، وتبددت إمكانية عقد اتفاق تسوية شاملة بعد اندلاع انتفاضة الأقصى وانتخاب شارون.
في ظل هذه الوقائع والمستجدات اعتلى الرئيس الأمريكي بوش الإبن سدة الحكم بإدارة جمهورية جديدة، وبدأت عملية تقويم للأداء الأمريكي في الشرق الأوسط وخاصة إزاء الصراع العربي الصهيوني، لأخذ العبرة من تجربة إدارة كلينتون، وقد اتسم أداء الإدارة الأمريكية الجديدة في التعامل مع التطورات السياسية في منطقة الشرق الأوسط بالارتباك وعدم وضوح الرؤية في بدايتها، وكثيراً ما برزت فروقات نسبية وتضاربات في التصريحات بين أركان الإدارة الأمريكية إزاء الأزمات والمستجدات السياسية والميدانية، وخاصة بين ديك تشيني نائب الرئيس ووزير الخارجية باول ، بيد أن السياسات الأمريكية بدأت تتضح ملامحها على إثر قيام جهات وشخصيات متخصصة بشؤون الشرق الأوسط ببلورة وصياغة تلك السياسات، حيث يتضح للمراقب والمحلل استمرار السياسات الجوهرية المتعلقة بالموقف من أطراف الصراع، مع تغيير في السياسات التفصيلية التي كانت سائدة في ظل الإدارة الديمقراطية برئاسة كلنتون للتعامل مع الأزمات في المنطقة.
ملامح السياسة الأمريكية الجديدة في المنطقة
1- اعتبار دولة الكيان الصهيوني بمثابة الركيزة الأولى لضمان مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، وأن التحالف الأمريكي مع الكيان قولا وعملا هو أداة الفعل الرئيسية في الشرق الأوسط، وهي القاعدة المتينة لخطط وسياسات أمريكا في المنطقة، لذلك فإن هذه العلاقة يجب ألا يشوبها أي توتر، وألا يرتقي إليها أي علاقة مع أي طرف عربي آخر.
2- تخفيف تورط الإدارة الأمريكية في أزمات المنطقة، والتوضيح لكلا الطرفين أن مصالح الولايات المتحدة في التسوية النهائية بين الطرفين محدودة، وأن أي تدخل أمريكي حقيقي لا بد أن يقوم على أساسين:
أ- أن يطلب الطرفان تدخل الولايات المتحدة عبر تقديم صيغ للحل، أي أن التفاوض مسؤولية الطرفين وأمريكا ليست طرفاً في ذلك.
ب- أن يتعهد الطرفان بقبول الصيغ التي تقدم.
3- إبعاد المؤسسة الرئاسية من التعامل مع الأزمة حفاظاً على هيبتها، والاكتفاء بالخارجية الأمريكية، وتفعيل دور وكالة الاستخبارات المركزية C.I.A، وبصورة عامة خفض مستوى الموظفين الأمريكيين الذين ينخرطون في معالجة الأزمات الشرق أوسطية .
4- الحرص الشديد على عدم تصاعد الأزمات إلى حرب إقليمية، والضغط على الأطراف المختلفة للحيلولة دون ذلك، مع ضرورة الضغط بكافة الوسائل لوقف حالة التدهور الأمني في فلسطين، وإعادة الطرفين إلى طاولة المفاوضات.
5- استمرار الدول العربية الصديقة لأمريكا في إطلاق مبادرات سياسية لتسوية الصراع حتى وإن لم يكن لهذه المبادرات حظ من النجاح، وذلك لئلا يحدث فراغ سياسي في المنطقة يؤدي إلى تصاعد الأحداث.
6- استمرار الضغط على السلطة الفلسطينية للعودة إلى دورها الأمني، والتعهد بالعودة إلى طاولة المفاوضات باعتبارها الطريق الوحيد لإدارة الصراع مع الكيان الصهيوني.
7- الضغط على سوريا لتهدئة جبهة الجنوب اللبناني، ولجم تحركات حزب الله، مع إظهار الدعم الأمريكي المطلق لأي إجراء صهيوني ضد سوريا أو لبنان كرد على هجمات محتملة لحزب الله.
8- القيام بالفصل الكامل بين ملف الصراع العربي الصهيوني، وملف العلاقات مع دول الخليج لتأمين مصالح أمريكا النفطية في الجزيرة العربية، باعتبارهما نطاقين استراتيجيين لكل منهما سياساته، وخططه التي يجب عدم الخلط بينها.
9- الاستمرار في الضغط على الدول الخارجة عن السيطرة الأمريكية وعلى رأسها إيران والعراق وسوريا والسودان.
مظاهر السياسة الأمريكية في التعامل مع الأزمة الراهنة:
انسجاماً مع السياسات العامة آنفة الذكر فإن ملامح السياسة الأمريكية الجديدة تتلخص في:
1- تكثيف الضغط الأمريكي السري والمعلن على السلطة لإعادتها إلى دورها الأمني الوظيفي لمصلحة الاحتلال ومن مظاهر ذلك:
أ-الإعلان المباشر عن تحميل السلطة مسؤولية ما يجري من تصعيد للأحداث ومطالبتها ببذل كل الجهود لوقف الانتفاضة والعودة إلى التفاوض.
ب-اعتبار زيارة عرفات إلى واشنطن ورقة ضغط عليه لتقديم تنازلات سياسية وميدانية.
جـ-تحريك بعض الدول العربية للضغط على السلطة لتهدئة الأوضاع ميدانياً.
د-إدانة الكونغرس للسلطة، واتهامها بدعم الإرهاب والتهديد بوصم م.ت.ف بالإرهاب ومنع المساعدات الأمريكية عن السلطة.
2- توريط السلطة في تفاهمات ومبادرات لإجهاض الانتفاضة سياسياً، وخفض سقفها من انتفاضة استقلال وتحرير إلى قضايا مطلبية هامشية، والتعاطي مع الأزمة باعتبارها مشكلة أمنية تحتاج إلى حل.
3- العمل على تجريد الطرف الفلسطيني من مصدر قوته (المقاومة)، وإعادته إلى طاولة التفاوض وهو في حالة أكثر ضعفاً مما كان عليه، على قاعدة عدم اعتماد العنف لتحقيق أهداف سياسية.
4- الحيلولة دون إدانة الكيان الصهيوني في المحافل الدولية وخاصة مجلس الأمن، نظراً لإلزامية قراءاته من الناحية القانونية.
5- إفشال أي تحرك أم مبادرة دولية لا تحظى برضا الكيان الصهيوني، ومن ذلك إفشال مشروع المراقبين الدوليين رغم هزاله.
6- الاستمرار في الدعم السياسي والإعلامي والعسكري المعلن للكيان الصهيوني، برغم كل جرائمه التي يمارسها بحق الشعب الفلسطيني.
7- خفض مستوى الموظفين المشرفين على إدارة الأزمة من وزير الخارجية إلى مساعده وليم بيرنز وصولاً إلى مساعد بيرنز المبعوث ديفيد ساترفيلد، بما يؤكد التوجه الأمريكي لإهمال أزمة المنطقة، مع ضبط التصعيد عبر الإدارة الأمينة لـ (C.I.A) لئلا تصل إلى شفير الحرب الإقليمية.
8- السماح للاتحاد الأوروبي ودول حلف شمال الأطلس الأوروبيين بلعب دور سياسي مساعد ومكمل للدور الأمريكي في المنطقة بما يخدم السياسة الأمريكية ومصالح حليفتها الصهيونية.
9- استخدام أمريكا لأوراق ضغط داخلية لعدد من الدول العربية، يتم إثارتها وفقاً لما تتطلبه السياسة الأمريكية.
الموقف العربي من السياسات الأمريكية:
يتحدد الموقف العربي من الولايات المتحدة ، بعدد من العوامل من أهمها:
1- تداعيات وآثار حرب الخليج الثانية على التضامن العربي، وما يترتب على ذلك من تواجد أمريكي عسكري مستمر في المنطقة، وما يفرضه ذلك من تبعات سياسية واقتصادية وعسكرية.
2- أولوية المصالح الثنائية مع الولايات المتحدة، ومعظم الدول العربية تقدم علاقاتها ومصالحها الخاصة على الواجب القومي الملقى على عاتقها، خاصة تلك التي تتلقى مساعدات اقتصادية وتسهيلات جمركية، أو التي تتمتع بالحماية الأمريكية العسكرية المباشرة.
3- التزام عدد من الدول العربية بأدوار وظيفية مكلفة بها في نطاق خدمة مصالح أمريكا في المنطقة، وخاصة تلك الدول التي توصف أمريكياً بالدول المعتدلة.
4- خشية دول عربية من قيام الولايات المتحدة بإثارة المتاعب من خلال فتح ملفات سواء متعلقة بأوضاع داخلية في تلك الدول، أو اتهامات متعلقة بالإرهاب والرق وغير ذلك من القضايا التي يمكن للأمريكيين استخدامها بمثابة ذرائع للتدخل في الشؤون الداخلية للدول والضغط عليها حسب الأجندة الأمريكية، فأصبحت تلك الدول رهينة لهذه القضايا والملفات.
5- حالة العجز في المؤسسات العربية إزاء الكيان الصهيوني وأمريكا، خاصة بعد أن كبل العرب أنفسهم بقرارهم اعتبار السلام الاستراتيجية العربية الوحيدة لحل النزاع، إضافة إلى التشرذم العربي وضعف الالتزام القومي.
هذه العوامل انعكست بصورة مباشرة على الأداء العربي بمواجهة السياسات الأمريكية المتحالفة مع الكيان الصهيوني، فشكلت حالة العجز والشلل العربي في التعامل مع الإدارة الأمريكية، ومن مظاهر ذلك:
1- الامتناع عن التنديد بالمواقف الأمريكية والاكتفاء بدعوتها إلى عدم الانحياز للموقف الصهيوني.
2- دعوة الولايات المتحدة للتدخل لوقف العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني.
3- دعوة الولايات المتحدة إلى القيام بمسؤولياتها الدولية السياسية والأخلاقية، إزاء ما يجري من قمع للشعب الفلسطيني.
4- إرسال الوفود العربية لتوضيح الموقف العربي مما يجري واستجداء التدخل الأمريكي لحل النزاع.
5- استبعاد أي محاولة أو تلويح بتهديد مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، وخاصة العودة إلى استخدام سلاح النفط، باعتبار أن ذلك سيضر بالعرب أنفسهم، وأنهم غير قادرين على مثل هذه الخطوة الكبيرة التي ستهدد مصالحهم المرتبطة بالولايات المتحدة.
6- استمرار بعض الدول والرؤساء العرب في لعب دور المساعد للدور الأمريكي في المنطقة، من خلال الأدوار التي تقوم بها الدول التي تقيم علاقات مع الكيان الصهيوني وغيرها، بحيث لا يترك مجال لفراغ سياسي يساعد على زيارة تصعيد المواجهة القائمة، وفي إطار هذا الدور الوظيفي تأتي العديد من المبادرات العربية للعودة إلى ما قبل28/9/2000م، والعودة إلى طاولة المفاوضات.
موقف السلطة من السياسات الأمريكية:
لا يمكن بحال عزل موقف السلطة عن الموقف العربي حيث إنهما متسقان في الجوهر رغم بعض الفروقات النسبية التكتيكية الإعلامية، وبعض الخصوصيات المتعلقة بواقع السلطة وتوجهاتها السياسية، ولعل من أبرز العوامل ذات الدور المؤثر في موقف السلطة ما يلي:
1- اعتبار فريق أوسلو أن 99 % من أوراق اللعبة بيد الولايات المتحدة الأمريكية.
2- اعتبار نزع الولايات المتحدة المشروعية السياسية عن السلطة بمثابة بداية النهاية لمشروع فريق أوسلو.
3- ضرورة التساوق مع المبادرات الأمريكية السياسية والأمنية للاعتبارين السابقين.
4- الاعتبارات الشخصية للعديد من قيادات السلطة والتي يرتبط مصيرها بالولايات المتحدة الأمريكية، سواء نتيجة الارتباط الوظيفي الاستخباري، وإما رغبة بالدعم الأمريكي في إطار التنافس والصراع الداخلي على المواقع المفصلية في السلطة وم.ت.ف في حال غياب عرفات أو تغييبه، وفي هذا الإطار يمكن فهم العديد من الزيارات الشخصية لقيادات أمنية وسياسية من السلطة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، التي على ما يبدو سربت معلومات مفادها أن 6 وزراء من السلطة و11 عضواً من المجلس التشريعي يتقاضون رواتب فصلية من C.I.A.
5- إصرار السلطة على الاستمرار في نهج أوسلو باعتباره خياراً استراتيجياً وحيداً، بما يستدعي تدخل طرف دولي للمساعدة في التوصل لتسوية سياسية، وليقوم بدور الضامن لتنفيذ أي اتفاق يتم التوصل إليه.
6- التسليم بالتحيز الأمريكي للكيان الصهيوني، وفي ذات الوقت استفراده بقيادة العالم دون طرف دولي بديل.
مجمل هذه الاعتبارات ألقت بظلالها على موقف السلطة من الولايات المتحدة وسياساتها في المنطقة، وقد انعكس ذلك على بعض المظاهر منها:
1- استمرار التعاطي الإيجابي مع الدور السياسي والأمني للولايات المتحدة في المنطقة، سواءً عن رغبة وتوجه حقيقي أم انصياعاً لضغوط سياسية واقتصادية.
2- استمرار استجداء الدور الأمريكي، بل والسعي لتوريط الإدارة الأمريكية وجرها إلى مستنقع الأزمة، باعتبار أن أمريكا وحدها القادرة على الضغط على الحكومة الصهيونية.
3- شجب المواقف الأمريكية الداعمة لسياسات الكيان الصهيوني القمعية، والدعم الأمريكي اللامحدود للاحتلال بكل صوره وبالوسائل كافة، مع ضرورة المحافظة على خط العودة والإبقاء على الجسور مفتوحة مع الإدارة الأمريكية، فهي من جهة تحاول إظهار الاحتجاج لإرضاء الشارع من جهة أخرى المحافظة على علاقتها مع الأمريكيين.
4- محاولة تشجيع أطراف دولية مثل روسيا والاتحاد الأوروبي وأخيراً الصين للعب دور في عملية التسوية لكسر الاحتكار الأمريكي لملف الشرق الأوسط، وفي الاتجاه الآخر الضغط على الإدارة الأمريكية للعودة للعب دور فاعل في التسوية مخافة فقدانها الدور في المنطقة، خاصة في ظل عدد من الانتكاسات للسياسة الخارجية الأمريكية في المحافل الدولية.
5- العمل على دفع بعض الدول العربية للوساطة لدى الإدارة الأمريكية، لتفعيل دورها من جهة، أو توضيح موقف السلطة من جهة أخرى، أو لعرض أفكار السلطة ومبادراتها مع الأمريكيين في صورة مبادرات للخروج من المأزق الراهن الذي تعيشه السلطة ومجمل أطراف التسوية وحلفاء أمريكا في المنطقة.
الرهان الخاسر:
لقد جاءت تصريحات الرئيس الأمريكي والتي أعلن خلالها دعمه المطلق للكيان الصهيوني، ومطالبته السلطة ببذل جهود 100% لوقف المقاومة، ومن قبلها تصريحات نائبه ديك تشيني المؤيدة للاغتيالات، لتطيح بالتكهنات بأن بوش ربما كان أكثر تحرراً من اللوبي الصهيوني الذي ناصر منافسه آل غور، مما يؤكد حقيقة مفادها أن التعويل على دور أمريكي حيادي أمر غير واقعي وغير منطقي، وأن العمل على جر الولايات المتحدة إلى المنطقة لم يكن ولن يكون لمصلحة الفلسطينيين والعرب، وهذا ما أثبتته حقبة كلينتون ومن بعده بوش، فالأمر إذن غير متعلق بإدارة أو حزب أو شخص رئيس الولايات المتحدة بقدر ما يتعلق بعوامل أخرى من أهمها:
1- أهمية مصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية الحيوية في المنطقة على رأسها أمن الكيان الصهيوني ووجوده، فالمشروع الصهيوني هو ربيب الغرب الاستعماري، ولم يكن لذلك المشروع أن يرى الوجود بدون الدعم الغربي المطلق، وقد تولت الولايات المتحدة قيادة الغرب من بعد الحرب العالمية الثانية، وأصبح من أهم مسؤولياتها الحفاظ على وجود وأمن الكيان الصهيوني في فلسطين، باعتباره قاعدة الغرب المتقدمة عسكرياً وثقافياً.
2- القانون الأمريكي وأنظمة الانتخابات تعطي جماعات الضغط المختلفة قدرة كبيرة على التأثير السياسي وعلى رأس تلك الجماعات، اللوبي الصهيوني الأمريكي والذي تتجلى قوته في عاملين رئيسيين هما:
أولهما: قوة موارده المالية في سوق المال والأعمار "وول ستريت" والشركات العملاقة في ميادين الصناعات الحربية والتكنولوجيا والبنوك، وضخامة موارده الإعلامية في مجال صناعة الإعلام والانتاج السمعي والبصري والسينمائي.
ثانيهما: إن عمله يمتد إلى نطاق أعلى قمة هرم الدولة (البيت الأبيض)، ومختلف أجهزة صناعة القرار السياسي، وهو ما يمكن ملاحظته بوضوح في القرارات المتعلقة بالشرق الأوسط.
3- النظام السياسي الأمريكي نظرياً يقوم على النموذج التوازني التعددي، باعتبار أن مجموعات المصالح والضغط تمثل الوسيلة للاحتفاظ بالسيطرة وقناة للتأثير الجماعي على القيادة السياسية، وتوازن المصالح لمختلف الأطراف والشرائح المكونة للمجتمع تؤدي إلى تولزن السياسات، إلا أن قوة اللوبي الصهيوني تجعل من النظام السياسي الأمريكي غير متوازن نظراً لتفوقها الكبير على جماعات الضغط الأخرى، وهذا ما يثير قضية عدم وجود لوبي عربي ضاغط في الولايات المتحدة، لذلك نجد أن الكونغرس الأمريكي خلال الأشهر الماضية اتخذ العديد من القرارات ومشاريع القوانين التي تؤكد الدعم المطلق للكيان الصهيوني وأخرى لإدانة السلطة الفلسطينية وذلك بالإجماع ولم يشذ عن ذلك سوى نائب أمريكي واحد.
4- التأييد الأمريكي المطلق للكيان الصهيوني ليس تأييداً نخبوياً، وإنما هو حالة شعبية تؤكدها استطلاعات الراي التي تؤكد أن تأييد الأمريكيين لدعم الكيان الصهيوني فاقت 85 %، وأن تأييدهم لأسوأ مظاهر الإرهاب الصهيوني وهو حرب الاغتيالات بلغت ما يفوق 70%، إن هذا مؤشر على أن التحالف الأمريكي الصهيوني يحظى بدعم المجتمع الأمريكي، فإسرائيل ودعمها حالة شعبية ثقافية ودينية أمريكية غربية، مرتبطةبمعتقدات عودة المسيح ومتجذرة في التراث الشعبي المستقى في كثير من الأحوال من العهد القديم، وللكنيسة في الولايات المتحدة قدرتها الكبيرة على التأثير في المجتمع والنخبة السياسية الأمريكية، رغم الحديث عن فصل الدين عن الدولة.
ما تقدم من اعتبارات وغيرها مما لا يتسع المجال لإحصائه، يؤكد أن المراهنة على الدور الأمريكي في المنطقة خيار العاجز الذي رهن نفسه وبرنامجه ومستقبله لأعداء شعبه وأمته، وهو بذلك يسلك طريقاً عبثياً لن يوصل إلى شيء ذي بال.
إن أي تعامل فعال مجدي مع الولايات المتحدة لابد أن يقوم على الأسس التالية:
1- إهمال الدور الأمريكي في المنطقة وتطويق سياساتها وعزلها، وهذا يقتضي عدم استجدائها أو التعاطي مع مبادراتها.
2- التأكيد العملي للولايات المتحدة أن ضمان حماية مصالحها في المنطقة والعالم لن يكون في ظل دعمها للكيان الصهيوني.
3- استمرار العمل مع المجتمع الأمريكي لتوضيح حقيقة الذي يجري في فلسطين، وخطورة المشروع الصهيوني على الاستقرار والمصالح الأمريكية على المدى الطويل، وذلك من خلال تفعيل دور الجمعيات العربية وتنسيق جهودها.
4- اعتماد برنامج المقاومة استراتيجية للشعب الفلسطيني والأمتين العربية والإسلامية، وتنمية عوامل القوة في الأمة، والتراجع النهائي عن خط التسوية السياسية الذي يمثل نقطة الضعف الرئيسة التي تخترق من خلالها الولايات المتحدة والصهاينة صفوف شعبنا وأمتنا.
5- إحياء لجان مقاطعة البضائع الأمريكية وتقديم البدائل الوطنية عنها.
خلاصة القول: بأن التعامل المنطقي والعملي والواقعي يقتضي التعامل مع الإدارة الأمريكية بصفتها الراعي والمشارك في المشروع الصهيوني في المنطقة، وأن تبنى كل السياسات وبرامج العمل والتحرك وفقاً لتلك الرؤية، المرتكزة إلى الفهم العميق للواقع السياسي والاجتماعي والعقائدي في أمريكا، وكذلك فهم مصالح وسياسات أمريكا في العالم والمنطقة.