نيران شبه الجزيرة الكورية
حادث القصف المتبادل بين الكوريتين الشمالية والجنوبية الذي وقع أمس الأول في جزيرة يونبيونغ المحاذية للخط الفاصل بين الدولتين وأدى إلى مقتل وجرح وتشريد العشرات خطير للغاية؛ لأنه الثالث من نوعه في أقل من سنة. الأول وقع في مارس/ آذار الماضي وأسفر عن غرق بارجة جنوبية ومقتل 46 بحاراً، والثاني وقع في نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الماضي حين كانت سوول تستقبل قمة دول العشرين الاقتصادية.
ثلاث مواجهات في تسعة أشهر تعتبر مؤشرات سلبية في دائرة تعتبر من مخلفات نهاية الحرب الباردة التي غاب عن مسرحها الكبار وبقي في إطارها الصغار عالقين يتخبطون من دون قدرة على تخطي الحواجز الزمنية وخطوط الحمر الأيديولوجية. الكبار تصالحوا وتفاهموا وانهاروا وعدلوا اللغة السياسية وتجاوزوا المحرمات والمقدسات بينما الصغار الذين دفعوا ثمن الحروب المدمرة وتحولت بلدانهم إلى ساحات للتنافس والتقاتل والتقاسم وسقط منهم ملايين الضحايا فشلوا في كسر الصورة النمطية وإعادة قراءة المتغيرات في سياق مخالف للذاكرة وما تتضمنه من مشاهدات مؤلمة تعطل الرؤية وتمنع البصر (والبصيرة) من التقاط علامات جديدة في مسار دولي تحولت ملامحه ومعالمه عن تلك الخريطة التي ارتسمت ميدانياً في نهاية الحرب العالمية الثانية.
كوريا الشمالية هي من الدول القليلة في العالم التي عجزت عن اكتشاف أدوات تساعد على الخروج من النفق والدخول في مصالحة ترفع عنها القيود المتوارثة حزبياً وتكسر من حولها أطواق الحصار الاقتصادي والمقاطعة السياسية. فهذه الدولة التي يتشكل منها الجزء الشمالي من شبه الجزيرة الكورية لعبت في مطلع الخمسينات دوراً دولياً تجاوز حدودها وإمكاناتها حين نجحت في جرجرة الأمم المتحدة (والولايات المتحدة) إلى معركة كبرى سقط خلالها أكثر من مليونين من القتلى بين العامين 1950 و1953 ولم تتوقف إلا بعد توافق دولي أدى إلى تقسيم شبه الجزيرة إلى نصفين (شمالي - جنوبي) على غرار ألمانيا (شرقية - غربية) ما أعطى قيمة خاصة لخطوط التماس التي تفصل بين المعسكرين الرأسمالي (الأميركي - الأوروبي) والاشتراكي (السوفياتي - الصيني).
نيران كوريا ليست محلية عموماً بل هي على الغالب إقليمية ودولية لذلك تكتسب المواجهات العسكرية التي تحصل بين فينة وأخرى أهمية خاصة بوصفها تعكس خريطة طريق شديدة التعقيد بسبب تشابك عناصر التفجير وامتدادها إلى المحيط الإقليمي ودول الجوار. فالحرب الكورية التي اندلعت في العام 1950 لم تكن في أساسها أهلية بين شعب واحد وإنما هي نتاج تراكم حروب صغيرة تمثلت في الصراع الياباني - الصيني، والصراع الياباني - الكوري، والصراع الكوري - الصيني. والقتال الذي نشب على خط عرض 38 بعد هزيمة طوكيو في الحرب العالمية الثانية واستسلامها للقوات الأميركية وخروجها من كوريا في العام 1945 كان يعكس في آلياته الداخلية سلسلة تحولات إقليمية أخذت تتشكل على قاعدة صعود الصين بقيادة الحزب الشيوعي (ماوتسي تونغ) وهروب الحزب الوطني (تشان كاي تشك) إلى جزيرة فورموزا (تايوان) وتأسيس دولة رأسمالية مضادة للوطن الأم.
خطورة نيران كوريا تكمن في طبيعتها الإقليمية وتصارع قوى الجوار (اليابان والصين) على تطوير النفوذ في المجال الحيوي الذي يسيطر على منافذ وموانئ خطوط التجارة التي تعتبر الآن الأهم في العالم بسبب النمو المتسارع لاقتصادات الدول الأربع: الصين، اليابان، تايوان، كوريا الجنوبية.
--------------------------------------------------------------------------------
خط عرض 38
المعركة التي وقعت على خط عرض 38 في العام 1950 في شبه الجزيرة الكورية الفاصلة بين بحر اليابان والبحر الأصفر بدأت حين قررت الشمالية اجتياح الجنوبية بعد سلسلة حوادث صغيرة (اختراقات وإطلاق نار وتبادل قصف) ما أدى إلى تدافع الأمم المتحدة وتشكيل قوات دولية (متعددة الجنسية) وإعلان الحرب على كوريا الشمالية. وانتهت المرحلة الأولى من الحرب إلى طرد قوات الشمالية وملاحقتها إلى الحدود الصينية ما شجع قيادة ماوتسي تونع إلى التدخل ودعم جارها في حربه ضد الولايات المتحدة ونجحت القوات المشتركة الصينية - الكورية في طرد قوات الأمم المتحدة من الشمال وملاحقتها جنوباً حتى احتلال العاصمة سوول. وأدت المرحلة الثانية إلى توسيع رقعة الحرب وأعطت ذريعة لأميركا للتدخل مباشرة في المرحلة الثالثة التي انتهت بإخراج القوات المشتركة من سوول وإعادة ترسيم الحدود على خط العرض 38 في العام 1953.
منذ تلك الفترة جرت تحولات كبرى. كوريا الجنوبية أصبحت دولة متقدمة اقتصادياً ويحسب لها الحساب في مجالات الصناعة والتقنية. تايوان تقدمت بدورها وأصبحت من الدول المتطورة صناعياً وتكنولوجياً. اليابان انتقلت من ضفة العدو للولايات المتحدة إلى دولة صديقة تحتل الموقع الثالث في التراتب الدولي للاقتصادات. والصين التي انتقلت من الشيوعية (الحزب الواحد) إلى رأسمالية الدولة الاشتراكية أو اشتراكية الدولة الرأسمالية سجلت في أربعة عقود نهضة اقتصادية كبرى وضعتها في مرتبة الدولة الثانية ومباشرة بعد الولايات المتحدة في سلم الترتيب لاقتصادات العالم.
كل الخريطة الإقليمية تعدلت باستثناء كوريا الشمالية. التحالفات السياسية انقلبت أو اختلطت وتشعبت إلى محورين. الأول تقوده الولايات المتحدة ويضم تايوان واليابان وكوريا الجنوبية، والثاني تقوده الصين منفردة لا تشاطر كوريا الشمالية مخاوفها ولكنها تعتبر هذا الجزء من شبه الجزيرة بمثابة خاصرة جغرافية تهدد أمنها الاستراتيجي ومحيطها المائي في البحرين الياباني والأصفر، لذلك لا تستطيع التفريط بهذا الجانب (الجيب) الذي يقع على حدودها في الشمال الجنوبي إلى جوار روسيا التي تطل على شرق آسيا من تلك الزاوية.
--------------------------------------------------------------------------------
الجغرافيا السياسية
الجغرافيا السياسية لها شروطها في تشكيل تحالفات لا تتكيف بالضرورة مع التوجهات الاقتصادية والمصالح التجارية ولعبة السوق. وبحكم هذا الموقع الاستراتيجي الخطير نجح نظام الحكم الحزبي - الفردي في بيونع يانع في بناء سلطة مستقلة عن الفضاءات الإقليمية والتحولات الدولية. الصين انتقلت من أيديولوجية منغلقة إلى الانفتاح، تايوان تراجعت مكانتها الدولية ولكنها حافظت على نموذجها الخاص في الدمج بين القومية والرأسمالية، كوريا الجنوبية تقدمت خطوات وانتقلت من طور الدولة الفقيرة التابعة إلى كتلة اقتصادية ناجحة تنافس أوروبا في تطورها التقني، واليابان أسقطت بعد تجربة مرة كل طموحاتها الإمبراطورية في الإقليم المجاور، وروسيا وهي جارة شمالية للصين وقريبة من الجزر اليابانية دخلت منذ تسعينات القرن الماضي في مرحلة مغايرة لتجربتها الاشتراكية.
كل الخريطة تبدلت وتلونت إلا كوريا الشمالية التي واصلت منهج الانغلاق الاقتصادي على أيديولوجية تعتمد فكرة أن الحزب هو المالك الوحيد والمنتج الوحيد والحاكم الوحيد.
المشكلة ليست في الاقتصاد المركزي والقطاع العام الموجه والانغلاق الأيديولوجي عن المحيط والعالم وإنما في نمو نزعة جمهورية توريثية تقودها شريحة عسكرية نجحت في تطوير منظومة دفاعية باتت تشكل الوعاء الحديد الذي يعتمد على قطاع التصنيع الحربي (صواريخ ومفاعلات نووية وقنابل تدميرية). فالوعاء - الحزب يتحرك في إطار مركزي يقوده الزعيم الواحد ما يعطل إمكانات التفاوض والحوار ويزيد من صعوبات مد الجسور بين الجزء الشمالي العسكريتاري والجزء الجنوبي (اقتصاد السوق وتداول السلطة). وهذا الانقسام لشبه الجزيرة بين قوة عسكرية ضاربة وقوة اقتصادية ضاربة قد يؤدي إلى اندفاع الخلاف واختراقه لخط العرض 38 الذي يفصل الدولتين كما حصل أمس الأول في تلك الجزيرة التي تقع على الحدود التي رسمتها الأمم المتحدة في العام 1953.
حرب 1950 بدأت بعد سلسلة تحرشات متبادلة أدت إلى اندفاع الشمال إلى الجنوب ثم هجوم الجنوب المعاكس بدعم دولي وصولاً إلى حدود الصين ثم دخول بيجين على خط الدفاع وإبعاد القوات المتعددة الجنسية إلى وراء سوول ثم عودة الهجوم المضاد بدعم أميركي استقر على خط العرض المتخالف على تفصيلاته حتى الآن.
خلال أقل من سنة حصلت ثلاثة اختراقات لوقف إطلاق النار ما يؤشر إلى نمو توتر حقيقي يعتبر الأخطر منذ العام 1953. وهذا الأمر يؤكد وجود أزمة كبرى في إطار ذلك الوعاء الحديد الذي يتحكم بالقرار السياسي في الشمال ومشكلة توريث السلطة المعطوفة على اكتشاف منشأة نووية جديدة ومناورات عسكرية قررت كوريا الجنوبية إجراء فاعلياتها على حدود خط العرض ومن دون تفاهم وتنسيق مع الجارة الشمالية الخائفة والمتوترة.
المسألة إذاً خطيرة وهي تستحق من دول الحوض التدخل السياسي السريع لاحتواء الأزمة، لأن الخاسر الأكبر في حال تطورت الجرجرة إلى حرب إقليمية ستكون تلك الدول التي تمتلك اقتصادات متقدمة في مختلف الحقول بينما «الوعاء الحديد» سيتعرض للخسارة الأقل لكونه من جانب ليس عنده الكثير ليفتقده ولأنه من جانب يعتمد على حماية «الأخ الأكبر» لأسباب مختلفة منها أن الصين غير مستعدة للتفريط بحدودها ومجالها الحيوي.
الجرجرة لم تصل إلى حد الاندفاع نحو حرب كورية ثانية لأن العالم تغير والمحيط الإقليمي دخل في مسار تطوري مغاير لآليات خمسينات القرن الماضي... ولكن الجار المنعزل على ذاته لا يقيم الاعتبار لكل هذه المتغيرات التي حصلت في الجوار والجنوب. وبسبب هذه الثغرة بين القوة الاقتصادية والقوة العسكرية حصلت دائماً الكثير من الحروب التي تبدأ عادة مناوشات وتنتهي معركة دولية كبرى كما حصل حين اندلعت نيران الشمال والجنوب في عهد كيم ايل سونغ.
وليد نويهض
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 3002 - الخميس 25 نوفمبر 2010م الموافق 19 ذي الحجة 1431هـ