ابدأ حكايتك من «ثانياً»
الدكتور حسن مدن - الأمين العام للمنبر الديمقراطي التقدمي (سياسي)
«24-نوفمبر-2010»
الحقيقة واحدة ولكنها تتكون من بنود، من حيثيات وتفاصيل وأمور جزئية، حاصل جمعها هو الحقيقة كاملة، أو هو الحقيقة في اللحظة التي يجري فيها الحديث.
إن أنت ألغيت قاصدا او غير قاصد، اي بند من البنود، اي تفصيل من الصورة العامة، الشاملة التي هي الحقيقة تكون قد اصبتها بتشويه في احد مواقعها.
وليس الأمر بهذه البساطة، انك لا تلحق التشويه وحده بها، انك قد تقلب الحقيقة كلها رأسا على عقب، المقدمة الصحيحة تفضي، في حال اليقظة والنباهة وحسن النية، الى نتيجة صحيحة.
حتى الفكر ما هو إلا نمو اعتيادي للأشياء، كل فكرة تنبني على فكرة سابقة لها، والثانية تفضي، هي الاخرى، الى فكرة ثالثة وهكذا دونما نهاية.
تلفيق الحقائق، وهي مهمة جزء من الاعلام الموجه، الاعلام المغرض انما يقوم على طمس هذه الحقائق، وتقديمها مقلوبة في مغزى نقيض لمغزاها الاصلي، «وابتكار» وقائع ليست قائمة.
هذا النوع من التلفيق سهل الفضح، مكشوف.
الأخطر منه ذاك النوع من الكذب القائم على تقديم شيء من الحقيقة، جزء من اجزائها واغفال الاجزاء الاخرى. الجزء حين يؤخذ معزولاً عن السياق العام يعطي دلالة مغايرة وتفسيراً اخر.
الجدل مع هذا النوع من تقديم الواقع اكثر صعوبة واشد تعقيداً، لأن جزء الحقيقة الذي يقدمه حدث فعلا ولا سبيل لنكرانه، ولأن الامر كذلك فإن الحيلة يمكن ان تنطلي على المتلقي المحايد او البريء او الساذج او طيب النية او ذاك المتلقي السلبي الكسول الذي لا يعنيه تتبع الامور من بداياتها، ويمتص المعلومة التي تقدم له دون ان يبذل جهدا في التحقق من مدى صحتها.
يمكن صوغ هذه الفكرة التي تبدو طويلة وبحاجة الى إسهاب في شرحها، في كلمات مقتضبة، موجزة، معبرة بالقول التالي: «من السهل طمس الحقيقة بحيلة لغوية بسيطة: ابدأ حكايتك من «ثانيا»!».
سيعني هذا تجاهل ما حدث أولاً، وشطبه من الذاكرة، كأنه لم يحدث أبداً، وسرعان ما يتحول النتيجة الى سبب، ويجري الغاء السبب الأساس كلية، وما أكثر ما كتب التاريخ بهذه الطريقة، حيث غُيبت منه صفحات كاملة، وصنعت تواريخ جديدة لم تكن اصلا، أو كانت بصورة مغايرة لتلك التي وصلتنا.
وهو الامر الذي يعني تجاهل ما حدث أولاً، فغالبا ما يكون أولاً هو المقدمة و«ثانيا» هو النتيجة، حين تلغي أولاً تصبح النتيجة سبباً وردة الفعل تصبح هي الفعل.
إن عدم رد الامور الى اصولها، الى جذورها، إلى اسبابها الأولى هو النقصية الكبرى التي تطبع امورا كثيرة في حياتنا، في الفكر وفي السياسة وفي السلوك وفي العلاقات اليومية المباشرة.
صحيفة الايام
24 نوفمبر 2010