ــ لنواجه أنفسنا أمام المرآة في موضوع حرب غزة ــ
قبل البداية يجب الإشارة إلى كوني من دعاة وجوب حصول الشعب الفلسطيني على حق تقرير المصير و العيش بكرامة و العيش في حرية و سلام، يجب الإشارة أيضا إلى أنني أؤمن أن الحركة الصهيونية كانت و لازلت تمارس أبشع الجرائم في حق الشعب الفلسطيني لكن هل يمكن أن نشرب كأس ماء بارد و أن نحاول التفكير في أسباب إحباطاتنا المتراكمة منذ عدة قرون (ربما منذ سقوط غرناطة سنة 1492م) بعيدا عن العاطفة و التسرع في إصدار الأراء والأحكام النمطية المسبقة (الجاهزة في أدمغتنا دون بذل الجهد لطرح الأسئلة بطرق مختلفة عما عهدناه)؟
لا يمكن لإحد أن ينكر بشاعة صور جثث الأطفال و النساء التي تتناقلها مختلف قنوات العالم و لا يمكن لإحد أن يتغاضى عن صور الرجال و النساء الذين فقدوا أكبادهم في القصف الهمجي كما لا يمكن غض البصر عن الأطفال و الرضع الذين توفى كل أفراد عائلاتهم و لم يتبق لهم سوى الدموع و المجهول و سوى الأحقاد التي ستملؤ صدورهم باقي سنوات حياتهم في إنتظار الإنتقام في يوم ما حتى لو كان ذلك في مستقبل بعيد
ــ محاولة تركيب القطع من أجل رؤية الصورة كاملة :
بعد قرار صدر عن الأمم المتحدة بتقسيم أرض فلسطين التاريخية بين الفلسطنيين و اليهود بنسبة 50 % لكل طرف سنة 1947 و بعد رفض الزعماء العرب لهذا القرار قامت المنظمات الصهيونية المعروفة أنذاك (الهاجاناه و إتسل و ليحي) بإعلان قيام ما سمي بدولة إسرائيل سنة 1948 فتصدر الزعماء السابق ذكرهم المشهد مرددين خطابات رنانة بأنهم سيلقون باليهود في البحر و النتيجة كانت النكبة بتهجير الفلسطنيين من أرضهم ليعود الزعماء العرب بعد 45 سنة من ذلك للمطالبة بتطبيق قرار التقسيم (مؤتمر أوسلو سنة 1993)
قام الزعماء العرب و على رأسهم جمال عبد الناصر بعد العدوان الثلاثي سنة 1956 بالتحضير للهجوم على الكيان الصهيوني و محوه من الوجود لكن في غياب النخب و في غياب النقاشات الموضوعية التي توفرها بيئة تسود فيها الديمقراطية تلقت الدول العربية هزيمة نكراء في مدة 6 أيام سنة 1967 (إجتاح جيش إسرائيل الضفة الغربية، غزة، صحراء سيناء، الجولان… وغيرها)
بعد نجاح عبور خط بارليف بقيادة الفريق سعد الدين الشاذلي سنة 1973 حاول السادات تبني هذا النصر بالتقدم أكتر حتى يتمكن من التفاوض مع إسرائيل من مركز قوة لكن شارون قام بالإلتفاف و محاصرة الفيلق الثالث المصري في صحراء سيناء فأصبح النظام المصري يتفاوض من أجل قبول إسرائيل بتزويد جنوده المحاصرين بالغذاء و الماء عن طريق منظمة الصليب الأحمر الدولي و هكذا تحول مرة أخرى النجاح إلى هزيمة أخرى بسبب غياب آليات النقاشات الموضوعية داخل الأنظمة العربية التي بقيت متجمدة في فكرة الزعيم الملهم الذي يعرف كل شيئ
يجب الإشارة إلى أن الشخصيات الفلسطنية التي كانت تكافح من أجل تأسيس دولة فلسطينية كانت في البداية ذات توجه يساري في أغلبها، كانت المنظمات و على رأسها منظمة التحرير تحاول جلب أنظار العالم عن طريق بعض الأعمال من بينها إختطاف الطائرات إلى معاناة الشعب الفلسطيني و حقه في تقرير المصير و هكذا شكل كل من ياسر عرفات و جورج حبش و خليل الوزير و حنان عشراوي و ليلى خالد و وديع حداد و غيرهم مشكلة كبيرة للكيان الصهيوني بسبب ثقافتهم و إتقانهم لوسائل جلب تعاطف شعوب العالم مع قضيتهم فرأينا أفرادا من أوربا و من أمريكا اللاتينية و من إفريقيا يحاربون إلى جانب الفلسطنيين
جاء بعد ذلك المد الديني بتشجيع من أمريكا و السعودية و غيرها من الأنظمة التي حددت أن مصلحتها تتطلب دفع الشعوب إلى تبني التفكير الديني بعيدا عن المنطق و بعيدا عن طرح الأسئلة الموضوعية لإيجاد الحلول لأن الخطأ في تشخيص المرض يؤدي حتما إلى عدم إيجاد الدواء الفعال و هكذا جاءت حركة حماس الدينية ( بتشجيع من حكومة إسرائيل و أمريكا عن طريق السعودية حسب بعض المصادر من أجل سحب البساط من تحت أقدام المنظمات الأخرى)
بعد سيطرة حركة حماس على قطاع غزة سنة 2007 بعد حرب دامية ضد حركة فتح أصبح الطريق ممهدا لها للسيطرة على كل المفاصل فيها من دون ترك الفرصة لأي صوت معارض لها بالتعبير عن رأيه، كل من يعارض توجهاتها فهو خائن (تقوم كل الأنظمة الشمولية بتوجيه هذه التهمة لمن يعارضونها و قد كان ذلك محور رواية جورج أورويل 1984 )
في غياب النقاشات الموضوعية و الأصوات المعارضة أصبحت تتصرف حركة حماس في مصير سكان غزة دون العودة لمشورتهم لا في السلم و لا في الحرب، لم تكن حركة حماس تتقن حرب الصور و الإعلام فظهرت خلال هجومها الأخير على غلاف غزة بمظهر الحركة الهمجية التي تقوم بقتل الأطفال و النساء و تقوم بأسر المدنيين من بينهم شبان صغار و عجوز في عمر 85 سنة حسب الصور التي جابت قنوات العالم فحتى إن كان في ذلك كذب و تلفيق من قبل حكومات و إعلام الغرب كان على الحركة أن تحضر بجدية لحرب الإعلام من أجل محاولة كسب تعاطف العالم لكن الذي حدث أن أغلب المختصين شبهوا صور أفعال مقاتلي حماس بصور مقاتلي داعش بعد سيطرتهم على مدينة الموصل سنة 2014 و هكذا وجدت حكومة إسرائيل الحجة أمام العالم لتبرير الجرائم التي تقوم بها متحججة أنها تواجه أناسا همجيين لا يمثون للإنسانية بصلة و الضحية هم دائما الأفراد الأكتر ضعفا لأن الأقوياء بإمكانهم أن يختبؤوا في أعماق أنفاق محمية تحت الأرض
في النهاية علينا حتى نتمكن من مساعدة أنفسنا أولا ثم مساعدة الفلسطنيين ثانيا بعيدا عن الخطابات و عن الأغاني العاطفية و جمع بعض المبالغ المالية من أجل الغذاء و الدواء علينا أن نحاول التخلص من طرق تسييرنا البالية التي لا تخضع فيها القرارات التي تهم المجتمع للنقاش، عندما تتوفر الحرية يمكن أن تتحرر المبادرات ثم عندما تتوفر دولة القانون (سلطة قضائية مستقلة) و عندما تسود الشفافية يمكن حينها أن يتطور الإقتصاد و بعدها سيكون بإمكاننا أن نحقق نموا سريعا لنصبح نشكل قوة في مختلف المجالات، يمكننا بعدها أن نساعد الفلسطنيين من مركز قوة أما ماعدا هذا فهي مجرد عواطف عابرة مثل إمرأة تبكي أباها الذي توفى لكنها عاجزة عن القيام بفعل أي شيئ
ــ جمال دعموش ــ