التاريخ كخديعة
في «المقدّمة» يقول ابن خلدون «فنّ التاريخ الذي تتداوله الأمم والأجيال، هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأولى، وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، علم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، جدير بأن يعدّ في علومها خليق»، لكن هل يجري فعلاً النظر إلى التاريخ، كما هو في باطنه وفق تعبير ابن خلدون، «نظر وتحقيق وتعليل»، أم يجري الاكتفاء بظاهره، مجرد «أخبار عن الأيام والدول والسوابق»؟
وحتى لو اكتفى المؤرخون والمهتمون بعلم التاريخ بالأمر الثاني، أي النظر للتاريخ بوصفه مجموعة أخبار، فمن يستطيع أن يقطع بأن ما يأتون به من «أخبار» صحيح؟ وما الذي يمنع أن تكون مجرد اجتهادات يخلصون إليها، لا تخلو من أهوائهم وانحيازاتهم التي قد تدفع بعضاً منهم على الأقل إلى تجيير «أخبار» التاريخ لتتلاءم مع هذه الأهواء؟
ثمة مقولة متداولة كثيراً لا يحضرنا الآن اسم من تُنسب إليه، فحواها: «التاريخ لم يقع، والمؤرخ لم يكن هناك»، وأياً ما كان الأمر، فإن التاريخ قد وقع، لكل الأمم تاريخ سابق لحاضرها، بصرف النظر عن طبيعة هذا التاريخ، لكن يبقى صحيحاً أن المؤرخ لم يكن هناك، لم يكن موجوداً وقت الحادثة، حيث يجري تشبيهه برجل المرور الذي أتى متأخراً للتحقيق في حادثة مرورية بعد أن تمَّ كل شيء، وأعدَّ روايته لما حدث نقلاً عن أطراف الحادثة والشهود، والشهود ليسوا مجردين من الأهواء، ثم إن محضر التحقيق تضمن في خلاصته ما ظنّه المحقق نفسه صحيحاً، أي ما اقتنع به هو من شهادة هذا الشاهد أو ذاك، متجاهلاً بقيّة الشهادات التي لم تقنعه، فهل بوسع أحد أن يجزم، في صورة مطلقة، أن هذه الشهادة بالذات هي الحقيقة الناجزة؟ فالعناصر التي اختارها المحقق من أقوال الشهود جميعاً ليتبناها، ليست هي بالضرورة العناصر الأخرى التي أهملها وظنّها غير دقيقة أو صائبة.
هناك خديعة أخرى أشدّ لؤماً في كتابة التاريخ أو روايته، أتى عليها الشاعر الفلسطيني الراحل مريد البرغوثي في كتابه "رأيت رام الله"، وهو يتحدث عما حدث مع المأساة الفلسطينية، فحواها هو البدء من "ثانياً" وتجاهل "أولاً"، كأنه لم يحدث، بمحاولة "محو" الحقيقة الفلسطينية السابقة للاحتلال، وبذلك تصبح النتيجة سبباً، والسبب هو النتيجة، ويتبع ذلك العمل على "نسيان" البداية الحقيقية للحدث، وهو ما يحدث اليوم أيضاً، وهي أسهل خدعة لتزوير الحقيقة، ولكشف هذا الخداع تظلّ الحاجة قائمة لإعادة قراءة، وبالتالي لإعادة كتابة وتأويل، التاريخ، خاصة حين لا يكون الخلاف حول أن واقعةً ما تمت أو لم تتم، وإنما حول الملابسات التي أحاطت بهذه الواقعة، وهي نفسها الملابسات التي تؤدي في الكثير من الحالات إلى إعادة تسلسل الوقائع، فيكون التالي هو السابق، فيما العكس هو الصحيح.
https://www.alkhaleej.ae/2023-10-18/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D9%83%D8%AE%D8%AF%D9%8A%D8%B9%D8%A9/%D8%B4%D9%8A%D8%A1-%D9%85%D8%A7/%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A3%D9%8A-%D8%B2%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A7