صناعة الفوبيا
بين تعريفات كثيرة للمقصود ب «الفوبيا»، كمرض، وجدنا المختصر المفيد في ما كتبه الإخصائي في علم النفس العصبي، تامر إمارة، حين وصف هذه «الفوبيا» بأنها «مرض نفسي وظيفي يتخذ أعراضاً من بينها شعور المريض بالخوف والقلق»، أكان هذا القلق مادياً أو معنوياً، مع ملاحظته أن هذه الأعراض تنحصر في المصابين بها، ولا تثير الخوف أو القلق لدى الغالبية العظمى من الناس، وذلك لأنها لا تتضمن ما يراه مرضى «الفوبيا» من مخاوف وهمية أو متخيلة، غير مبنية على منطق، ولكن المصاب بها «لا يستطيع تجاوزها أو توقيف التفكير عنها ببذل مجهود ذاتي، وإنما يحتاج إلى اللجوء للعلاج النفسي ليتمكن من ذلك».
التعريف هنا يكاد ينحصر في الجانب السيكولوجي، بل إنه كذلك فعلاً، وبالتالي فإنه لن يغطي ما نريد الوقوف عنده حول «صناعة الفوبيا» أو افتعالها، وإيجادها من العدم أو مما يشبهه، لأسباب سياسية واجتماعية، في الكثير منها طابع عنصري، وتوظيفها بصورة براغماتية، لئيمة أو مغرضة، لغايات يصح وصفها بغير النبيلة، وربما يقارب هذه الفكرة ما جاء في مقال للكاتب العراقي داوّد الفرحان، قال فيه إن «أسوأ أنواع الفوبيا هو رهابا التاريخ والجغرافيا في السياسة، اللذان ذهب ضحية لهما ملايين البشر في حروب داخلية وإقليمية وعالمية منذ آلاف السنين»، وبالتالي نحن بصدد «فوبيا» من نوع أشدّ وأخطر.
الحقيقة أن الأمر لم يكن منذ آلاف السنين فقط، إنما هو مستمر حتى اللحظة في صور وأشكال مختلفة، حيث يجري «صناعة الفوبيا» كأداة في الصراعات الدامية، أو في السياسات الموجهة لأغراض تخدم صانعيها. والأمثلة كثيرة، يعرفها القاصي والداني، ولنبدأ بالداني، بنا، حيث بات العرب والمسلمون ضحايا «الإسلاموفوبيا» المنتشرة في المجتمعات الغربية، فجرت وتجري «شيطنة» كل ما يمت إليهم، وتفاقم ذلك بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ثم ظهور الجماعات المتطرفة مثل «القاعدة» و«داعش» مع أن مروجي هذه «الفوبيا» يدركون أن غالبية المسلمين أبرياء من سلوك هذه الجماعات، بل إن كثيرين منهم ضحايا لها.
فجّرت حرب أوكرانيا موجة جديدة من «الفوبيا» عرفت ب «الروسوفوبيا»، التي لم تقف عند حدود السياسة، وإنما طالت كل ما هو روسي، من أدب وثقافة وموسيقى ورياضة، فطالت أسماء هي بمثابة رموز أدبية كلاسيكية عاشت قبل قرنين أو أكثر، فقط لأنهم روس، كاستعادة لبعض أوجه الحرب الباردة، بشيطنة كل ما كان سوفييتياً.
ها نحن اليوم أمام وجه آخر من صناعة «الفوبيا» على خلفية حرب غزة، حيث تجري شيطنة الفلسطينيين، حاضراً وتاريخاً وقضية عادلة لشعب سلبت حقوقه واحتلت أرضه وهجّر أبناؤه على مدار عقود، وها نحن نرى كيف يجري إيقاف رياضيين وإعلاميين وفنانين عبروا عن تضامنهم مع أهل قطاع غزة واستنكروا ما تقترفه قوات الاحتلال ضدهم من جرائم، فيما ألغى معرض فرانكفورت للكتاب تكريماً مقرراً لكاتبة، لا لشيء سوى كونها فلسطينية، وتمنع فرنسا التي تتباهى بديمقراطيتها مسيرات التضامن مع غزة وكل فلسطين.
https://www.alkhaleej.ae/2023-10-23/%D8%B5%D9%86%D8%A7%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%88%D8%A8%D9%8A%D8%A7/%D8%B4%D9%8A%D8%A1-%D9%85%D8%A7/%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A3%D9%8A-%D8%B2%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A7