فقدان الذاكرة
لمؤلف رواية «العطر» الشهيرة، الألماني باتريك زوسكند، نص أسماه «فقدان الذاكرة الأدبية» يمكن الاطلاع عليه في مجموعة قصص له مترجمة إلى العربية من وضع كاميران حوج، بعنوان «ثلاث حكايات وملاحظة تأملية».
رواية زوسكند «العطر» من أكثر الروايات شهرة لا في ألمانيا وحدها، وإنما في العالم كله؛ حيث بقيت في لائحة الأفضل مبيعاً لنحو تسع سنوات متواصلة، رغم أنها أول إنتاجات كاتبها، وتروي سيرة حياة جان باتيست غرونوي الممتلك لحاسة شمّ فائقة، ساردة تطوّر حياة غرونوي الآخذ بشغفٍ لامتناهٍ في شحذ مواهبه في سبر أغوار العطور والروائح، متجرداً من كل النوازع الأخلاقية. وحوّلت الرواية إلى فيلم حمل اسمها من إخراج توم تايكور ومن بطولة بن ويشا، آلان ريكمان، راشيل هورد، وداستين هوفمان.
ترجمت إلى العربية أيضاً الرواية القصيرة لزوسكند «الحمامة»، وأيضاً نصّه المسرحي «الكونترباص»، الذي عرض لأول مرة على المسرح في العام 1981، ويذكر أنه قدّم، مسرحياً، في بعض البلدان العربية، وقدّر لي أن أشاهده قبل سنوات في البحرين، وهو يحكي علاقة عازف موسيقي بآلته، وبتناول مسرحي غير تقليدي.
في نصّه عن فقدان «الذاكرة الأدبية»، يبدو الكاتب كمن يتناول موضوع الذاكرة عامة، وهو يتحدث عن شخص ما، أراد زوسكند أن يتماهى معه فيصبح هو المتحدث، في مسعاه لتذكر سؤال وجّه إليه، وحين تذكّر أن السؤال كان عن الكتاب الذي «أثرّ فيه وطبعه بطابعه ودمغه بدمغته وهزّه من الأعماق وأخرجه من مساره»، استطرد متحدثاً عن عالم نفس نمساوي لا يحضره اسمه، في دراسة جديرة بالقراءة لا يتذكر عنوانها على وجه اليقين، لكنها ظهرت في كتيب صغير ليس متأكداً ما إذا كان عنوانه «الأنا والأنت» أو «الهو والنحن» أو «الأنا والذات» أو ما إلى هنالك، قبل أن يعدد أسماء عدد من دور النشر، يرجح أن الكتيب صدر عن إحداها، لكنه لا يتذكر عن أي منها تحديداً، حائراً حول ما إذا كان غلاف الكتيب أخضر على أبيض، أو أزرق فاتحاً على خلفية صفراء، أو أخضر على أزرق.. إلخ.
ها نحن، إذن، إزاء ذاكرة منقوصة. كل ما استطاعت الذاكرة الجزم به دراسة عالم النفس النمساوي الجديرة بالقراءة فقط، أما بقية التفاصيل فقد تسربت من مناخل الذاكرة، ولا سبيل لاسترجاعها على الأرجح. ليس فقط عناوين الكتب وأسماء مؤلفيها وألوان أغلفتها ما ننسى. ننسى تفاصيل أخرى كثيرة في الحياة، أبعد ما تكون عما دعاه زوسكند "الذاكرة الأدبية".
لكن من قال إن هذا يصحّ في كل الحالات؟ ليس كل الذاكرات تتبدد أو تتسرب، منها ما هو عصيّ على النسيان. نيلسون مانديلا قال مرة: «قد نغفر، لكننا لن ننسى»، كأنه يرد على الصهيونية جولدا مائير التي قالت مرةً، وهي تتحدث عن الفلسطينيين، بأن الكبار سيموتون والصغار سينسون.
https://www.alkhaleej.ae/2023-10-24/%D9%81%D9%82%D8%AF%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D8%A7%D9%83%D8%B1%D8%A9/%D8%B4%D9%8A%D8%A1-%D9%85%D8%A7/%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A3%D9%8A-%D8%B2%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A7