أوين جونز
إخراس الناطقين باسم الفلسطينيين الأبرياء
01 نوفمبر 2023
ترجمة: أحمد شافعي
استمع
أي جريمة بالضبط ارتكبها أستاذ علم الأحياء المحوسب مايكل أيزن فأفضت إلى إقالته من وظيفته محررا لمجلة إيلايف [eLife]، وهي مجلة علمية مرموقة قائمة على مراجعة الأنداد ومتخصصة في علوم الطب الحيوي وعلوم الحياة؟ لقد نشر هذا الأمريكي اليهودي ذو الأسرة الإسرائيلية في موقع تواصل اجتماعي مادة من موقع أونيون الساخر عنوانها «انتقاد موتى غزة لعدم تخصيصهم كلماتهم الأخيرة لإدانة حماس».
كانت هذه الطرفة المريرة قد نطقت بحقيقة لا نزاع فيها وهي أن الفلسطينيين يموتون بمنطق عقاب الذنب الجماعي الذي أقره الرئيس الإسرائيلي اسحاق هيرتسوج حين أعلن أن «شعبا كاملا يتحمل المسؤولية». أشاد أيزن بموقع أونيون لأنه تحلى «بقدر من الشجاعة والبصيرة والوضوح الأخلاقي يفوق ما لدى قادة كل المؤسسات الأكاديمية» وأيضا أدان حماس. وبعد عشرة أيام من ذلك أقيل.
أصدر مجلس إدارة إيلايف بيانا أشار فيه إلى أن «أسلوب أيزن في القيادة، والتواصل، والإعلام الاجتماعي كان في بعض الأوقات الحاسمة مؤذيا لتماسك المجتمع الذي نحاول إقامته ومن ثم مؤذيا لمهمة إيلايف. وعلى هذه الخلفية فإن الإمعان في هذا السلوك قد أسهم في قرار مجلس الإدارة». ولم يشر البيان إلى أي من الوقائع السابقة المزعومة إن كان لها وجود.
منذ أن ردت إسرائيل على أعمال حماس بهجوم ضارٍ تسبَّب في مقتل أكثر من ثمانية آلاف فلسطيني، ثمة سعي إلى إخراس المتعاطفين مع الفلسطينيين وترهيبهم والتحرش بهم. ومن المحتوم أن يكون الفلسطينيون هم الذين يعانون وطأة حملة تشويه أبسط أشكال المعارضة للمجازر الجماعية التي تجري على شعبهم.
وتأملوا حالة عدنية شبلي، الكاتبة الفلسطينية الشهيرة التي حصلت على جائزة ليبارتوربريس الألمانية لعام 2023 عن روايتها «تفصيل ثانوي» التي حكت فيها قصة حقيقية لاغتصاب جندي إسرائيلي فتاة بدوية فلسطينية وقتله لها سنة 1949. بعد أن بدأت الأعمال المريعة الراهنة، أرجأ المنظمون الحفل «بسبب الحرب التي بدأتها حماس، والتي يعاني من جرائها الملايين في إسرائيل وفلسطين».
تعرض أدباء غير فلسطينيين آخرون للاستهداف أيضا. فقد تم إرجاء ندوة لـ (فييت ثانه نجوين) ـ وهو ابن لاجئين ومتعاطف مع المشردين من الشعوب الأخرى ـ كانت مقررة في مركز(الشارع الثاني والتسعين) بنيويورك، وذلك إثر توقيعه رسالة مفتوحة تطالب بـ«إنهاء العنف والدمار في فلسطين». يصف المركز نفسه في موقعه على الإنترنت بأنه «مؤسسة تعتز بيهوديتها»، وفي بيان تم إرساله إلى رويترز جاء أن المركز أراد مهلة ليقرر أفضل سبيل لاستعمال منصته في «دعم كامل مجتمع 92 نيويورك».
ماذا عن (الحملة الأمريكية من أجل الحقوق الفلسطينية) التي ألغي مؤتمرها القديم في هيوستن في أعقاب وصف الغرفة التجارية الأرثوذكسية اليهودية للمؤتمر بأنه «مؤتمر أنصار حماس»؟ أرجع فندق هيلتن الإلغاء إلى أسباب أمنية.
وتم استهداف المتحدثة الرئيسية رشيدة طالب ـ أول نائبة أمريكية فلسطينية منتخبة في الكونجرس ـ من قبل حملة تشويه جمهورية، في محاولة لتشويهها بتهمة «القيام بأنشطة معادية للسامية» و«التعاطف مع منظمات إرهابية»، وكل تلك هجمات لا أساس لها. في الوقت نفسه تردد أن قناة MSNBC أوقفت 3 من مذيعيها المسلمين عن تقديم البرامج دونما تفسير. ووصفت القناة أي تغيير في برامجها بأنه «نتاج الصدفة».
وهنا في بريطانيا، يقال لنا منذ أمد بعيد أن طلبة «الصحوة» woke يمثلون تهديدا للحرية الأكاديمية. ولكننا لم نر إدانات جهيرة لجامعة ليفربول هوب بعد تأجيلها محاضرة للمؤرخ البريطاني الإسرائيلي آفي شاليم الذي يتحدى مشروعه البحثي السردية التاريخية الإسرائيلية الرسمية. لقد كان دفاع الجامعة هو أن القرار اتخذ في مراعاة لسلامة وأمن الطلبة والأساتذة.
ودافعت وزيرة ميشيل دونيلان عن قانونها للتعليم العالي (المعروف بقانون حرية التعبير) في العام الماضي بزعمها أن «الحرية الأكاديمية في هذه المؤسسات تتقوض على نحو يهدد ديمقراطيتنا كلها» مضيفة قولها «إننا نرى الأكاديميين يفرضون الرقابة الذاتية على أنفسهم بوازع من الخوف». غير أن الوزيرة أعربت في رسالة موجهة الأسبوع الماضي إلى هيئة البحث والابتكار في المملكة المتحدة عن «اشمئزاز وغضب» من تعيين الهيئة اثنين من الأكاديميين ضمن هيئتها الاستشارية في قضايا المساواة والتنوع والاحتواء، وأحد هذين ـ على حد تعبيرها ـ «يدين العنف من كلا الجانبين لكن مع إشارة إلى (الإبادة الجماعية والأبارتيد الإسرائيليتين». وممن أدانوا إسرائيل بالأبارتيد منظمة العفو الدولية وهيومان رايتس ووتش ومنظمة بيتلسيم الإسرائيلية لحقوق الإنسان وغيرها في حين يحذر خبراء بالأمم المتحدة من «خطر الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني». فثمة مواقف مشروعة تماما يمكن أن يتبناها الأكاديميون لكن مناصرة دونيلان لحرية التعبير تتلاشى حينما تنزعج من الآراء المطروحة بشأن قمع إسرائيل العنيف للفلسطينيين.
في الوقت نفسه، أوقف حزب العمل آندي مكدونالد لقوله أمام مظاهرة يوم السبت المناهضة للحرب ـ وهذا مقتطف مباشر ـ «إننا لن نستريح إلى أن نحقق العدل، وينعم البشر جميعا، إسرائيليون وفلسطينيون، في ما بين النهر والبحر بحياة الحرية والسلام». واضح أن مكدونالد أعرب بجزالة عن تأييده الحماسي لحل الدولتين، ولكن هذا المطلب الإنساني الداعي إلى التعايش السلمي بات في ظل قيادة ستامر لحزب العمال يعد مشينا أخلاقيا، خلافا لدعم إمطار المدنيين ومنهم الأطفال بالصواريخ. كما أقيل عضو البرلمان عن المحافظين بول بريستاو من دوره بوصفه مساعدا حكوميا وذلك لمطالبته بوقف إطلاق النار. في بريطانيا الحديثة، يعد معارضو المجازر الجماعية مجاوزين للحدود.
إن القضية الفلسطينية تفضح نفاق ما يعرف بثقافة الإلغاء cancel culture. فنحن مدفوعون منذ أمد بعيد إلى الاعتقاد بأن هناك إخراسا جماعيا للشخصيات العامة عند قولهم ما ينطوي على إهانة أو مطالبتهم بأمور تخص جماعات المهمشين . خلافا للمتعاطفين مع الفلسطينيين، هؤلاء رددوا شعارات شائعة على نطاق واسع بين النخبتين السياسية والإعلامية. لكن من يتحدون النظام الاقتصادي أو السياسة الخارجية الغربية ـ أو كليهما ـ يواجهون دائما الإخراس الحقيقي.
إن مجرد معارضة العنف ضد المدنيين ينطوي على مخاطرة بالمهنة والسمعة. وهذا الترهيب له عواقب وخيمة: فهو يقوض الضغط العام على حلفاء إسرائيل الغربيين من أجل إيقاف المذابح وإنهاء الاحتلال والاستعمال والأبارتيد الذي يؤبد هذا الكابوس. والحل بطبيعة الحال ليس الجبن، وإنما المزيد من الجهر بالصوت.