أدهم شرقاوي
روى «محمد بن أحمد المقري» في كتابه الرائع «المختار من نوادر الأخبار»:
إنَّ «عكرمة الفياض» كان والياً على الرِّقة «لسليمان بن عبد الملك»، وكان في الرقة رجل يُقال له «خُزيمة الأسدي» شهم كريم انقلبتْ به الدنيا وافتقر، وذُكر في مجلس عكرمة، وبالحال التي صار إليها.
فلما كان الليل أخذ «عكرمة» كيساً من النقود، وطرق باب «خزيمة»، وأعطاه الكيس وأراد أن يمضي، فأمسكه خزيمة من ثيابه، وقال له: من أنتَ؟
فقال عكرمة: ما أتيتُ في هذه الساعة، وأنا أريدُ منك أن تعرفني، أنا جابر عثرات الكرام!
وأخذ خزيمة المال، وأصلح شأنه، وسار إلى سليمان بن عبد الملك، فأحسن استقباله، وقال له: ما أبطأك عني يا خزيمة؟
فأخبره بحاله، وقصَّ عليه خبر جابر عثرات الكرام!
فذُهل سليمان من الخبر، وجعل يقول: جابر عثرات الكرام، واللهِ إني مشتاق لرؤية هذا الرجل!
ثم إن الناس قد أوغروا صدر سليمان على عكرمة، فكتب كتاب عزله، وولى مكانه خزيمة، وأمره بحبس عكرمة ومصادرة كل أمواله!
وصار عكرمة في السجن، وأتت زوجته تزوره، فقال لها: قولي لخزيمة، أهذا فعلك بجابر عثرات الكرام؟!
فقام خزيمة إليه، وفكَّ قيده، وجعل يُقبل يديه ويستسمحه!
ثم حمل عكرمة إلى سليمان، فلما وصل إلى بابه واستأذن عليه، قال له سليمان: ما أقدمكَ عليَّ دون إذني؟
فقال له: يا أمير المؤمنين، جئتك بجابر عثرات الكرام، هو عكرمة عاملك على الرقة قبلي!
فقام سليمان من على كرسي الخلافة، وقال لعكرمة: ظلمناك يا عكرمة، وإن المعروف عندنا لا يضيع، لكَ ولاية الرقة مجدداً، ولخزيمة ولاية الحيرة!
النبيل يُقدِّرُ النُبل وإنْ أُسدِيَ إلى غيره، والوضيعُ يجحدُ المعروفَ وإن أُسديَ إليه!
والنُبل يبقى نُبلاً وإن قام به من تكره، والخِسة تبقى خِسةً وإن قام بها من تُحب!
عندما قامتْ سفَّانة بنت حاتم الطائي وهي في الأسر تستعطف ُالنبي صلى الله عليه وسلم بأخلاق أبيها في الجاهلية، وذكرتْ ما كان يفعله.
قال لها: هذه صفات المؤمنين حقاً، ولو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه، وقال لمن معه: خلُّوا سبيلها!
إنه يشيد بأخلاق رجل كان يعبدُ الأصنام، بل ويكرم ابنته لأجل ذلك الخُلق الكريم، هذا لأنه كريم بأبي هو وأمي!
كل كلمة حق قيلتْ قدِّرْ أهلها، وكل موقف كرم فُعِلَ احفظه لمن قام به، فإن إنكار النُبل لا يُسقطه، وإنما يُسقطكَ أنتَ!
وإن موقف كل إنسان من قضية ما، لا يخبرنا بحقيقة هذه القضية، بقدر ما يخبرنا بحقيقته هو!