كرنفال الكتب أم مقبرتها؟
أفزعتني جداً مقارنة عُقدت بين المكتبات والمقابر. إنها تصدم ما هو مستقرّ في الأذهان والنفوس من تقدير يبلغ حد التقديس أحياناً، لما تحتويه المكتبات من معارف وعلوم. الفزع الذي انتابني في بداية ما قرأته حول هذه المقارنة تبدّد رويداً رويداً، وأنا أواصل قراءة تفاصيلها، التي عقدها شوبنهار، الفيلسوف الألماني المتوفى في عام 1860، وهو يقول: «إن تمرير اليد على رفوف المكتبة أشبه ما يكون بالمشي بين القبور؛ حيث نحاذر أن تطأ أقدامنا الموتى في طريقنا إلى القبر الذي نقصده»، وأثناء القراءة يلتصق بنا بعض الموتى من حيث لا ندري، وأحياناً يكون الميت قد عقد صداقات مع موتى آخرين، وصار من المتعذر زيارته دون أن نزورهم معه في الآن نفسه، ربما في إشارة إلى وحدة موضوعات الكتب، أو كون مؤلفها هو نفسه.
وحديث شوبنهار حول ذلك يطول، ومملوء بالتشبيهات البليغة والطريفة، لكنه ليس الوحيد الذي تناوله الكاتب محمد آيت حنا في كتابه الذي أطلق عليه عنوان «مكتباتهم»، وفيه تناول مجموعة من مشاهير الكتّاب في علاقتهم بمكتباتهم، بينهم أجانب وبينهم مغاربة يعرفهم الكاتب كونه مغربياً، ولم يكن محمد آيت حنا معنيّاً تحديداً بطقوس وزوايا دهاليز مكتبات من تناولهم من كتّاب، حتى وإن فعل ذلك أحياناً، بمقدار ما هو معني بطقوسهم في القراءة وبالكتب التي أثّرت فيهم، وربما تكون قلبت مفاهيمهم رأساً على عقب، أو أحدثت انعطافات في مسار فكرهم وإبداعهم، وهذا ما قاله وهو يتناول تجربة إمبرتو إيكو، حيث استهل حديثه بالقول: «يكفي كتاب واحد لتدمير مكتبة بكاملها، وعلى مثل هذا الكتاب يطلق وصف «الكاتب القاتل»، الذي يقتات على روح القارئ، ويصرفه عن قراءة ما سواه، ويفرض عليه حالاً من الاستلاب الكلي».
وقف الكاتب أيضاً عند بعض أدباء العرب القدامى، ومن بينهم الجاحظ الذي وصفه ابن قتيبة بأنه «أكذب الناس»، ولا هجاء في هذا الوصف ولا ذمّ، حيث عرف عن الجاحظ أنه قلب معنى السرقة والانتحال، فعلى خلاف الدارج من أن السارق ينسب كلام الغير إلى نفسه، «فإن الجاحظ تجاوز مرحلة اختراع الكلام إلى اختراع المتكلمين»، فصار ينسب كلامه هو إلى غيره، ربما لمعرفته أن عصره يعلي قيمة المنقول على قيمة المُؤلف.
لا بأس أن نختم بما أورده المؤلف عن مواطنه عبدالفتاح كليطو، الذي عنه قال إنه يهتم كثيراً بالقرّاء كمّاً ونوعية، حتى أنه يمكن تحديد أنماط كثيرة من قرائه، بل وسيربط ربطاً مباشراً بين الكتب والقرّاء، فالأخيرون هم «روح المكتبة وهم من يحوّلونها من مقبرة إلى كرنفال».
https://www.alkhaleej.ae/2023-12-15/%D9%83%D8%B1%D9%86%D9%81%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%A8-%D8%A3%D9%85-%D9%85%D9%82%D8%A8%D8%B1%D8%AA%D9%87%D8%A7/%D8%B4%D9%8A%D8%A1-%D9%85%D8%A7/%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A3%D9%8A-%D8%B2%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A7