لوح خشبي وبقايا طباشير
ما أجمل وأعمق وأصدق ما قاله محمود درويش وهو يتحدث عن إرادة شعبه الفلسطيني في التمسك بالأمل، رغم كل المآسي والدماء والجراح والدمار والقتل الممتد منذ عقود، منذ النكبة الأولى حتى اللحظة: «نحبّ الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا/ ونزرعُ حيث أقمنا نباتاً سريع النموِّ/ ونحصدْ حيث أَقمنا قتِيلاَ/ وننفخُ في النّاي لون البعِيد البعِيد/ ونرسمُ فوق تُراب الممرَّ صهيلاَ/ ونكتب أَسماءنا حجراً/ أَيّها البرقُ أَوضِحْ لَنا الليلَ/ أَوْضِحْ قلِيلاَ».
تحضر هذه الأبيات ونحن نقرأ تقريراً نشره موقع «بي. بي. سي» عن معلم فلسطيني شاب من أهالي غزّة المنكوبة بالعدوان الإسرائيلي، اختار زاوية صغيرة في مدرسة للإيواء برفح ليجعل منها صفاً لتعليم التلاميذ الذين فرّوا مع أهاليهم إلى تلك المدرسة، بعد أن هُجروا من منازلهم وحرموا من الذهاب إلى مدارسهم، حيث وضع عدداً محدوداً من الكراسي في حدود ما تسمح به المساحة، ليجمع فيه من استطاع من التلاميذ الذين فقدوا فرصهم في التعليم منذ بداية الحرب.
أحضر المعلم الشاب، واسمه طارق العنابي، لوحه الخشبي الخاص من منزله الذي كان يستخدمه قبل الحرب لإعطاء دروس خصوصية، وبقايا طباشير، ليتطوع بتعليم أولئك التلاميذ كي لا ينقطعوا عن الدراسة ويستعيدوا مستواهم الدراسي، في ظرفٍ أغلق فيه كل شيء، وتحوّلت المدارس إلى ملاجئ، ورغم هول المحنة من حولهم ورعبها، فإن كاتبة التقرير تقول إنه «من اللحظات الأولى للدرس، يبدو كأن الأطفال ينسون للحظات ما الذي يحدث خارج حدود هذا المكان الصغير المكتظ».
غاية أخرى للمعلم الشاب طارق من تطوّعه بإقامة هذا «الصف»، بالإضافة إلى تعليم تلاميذه وتلميذاته، هي «إخراج الطلاب من أجواء الحرب»، أما معدّة التقرير فلاحظت أن التلاميذ يرفعون أيديهم بحماس للإجابة عن الأسئلة، يتنافسون ويتبادلون النظرات، ويحاولون إخفاء ابتساماتهم عن الأستاذ، كما لو أنهم في يومٍ مدرسي عادي، فيما أصوات القصف لا تتوقف، حتى أن المعلم اضطر أكثر من مرة «لإلغاء الحصة الدراسية واستكمالها في وقت لاحق» بسبب ذلك القصف.
«بهجة» هؤلاء الأطفال بمعلمهم لا تحجب الصورة الأشمل، فهم ليسوا سوى أعداد محدودة من بين أكثر من ستمئة وخمسة وعشرين ألف تلميذ فلسطيني انقطعوا عن الدراسة منذ بداية الحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة، حسب بيانات الأمم المتحدة، وإن أكثر من 3477 تلميذاً و203 من الموظفين التعليميين استشهدوا منذ بداية الحرب حتى مطالع هذا الشهر.
أصعب سؤال واجهه المعلم العشريني من تلاميذه هو: «متى تخلص الحرب ونرجع ع بيوتنا؟».
https://www.alkhaleej.ae/2023-12-19/%D9%84%D9%88%D8%AD-%D8%AE%D8%B4%D8%A8%D9%8A-%D9%88%D8%A8%D9%82%D8%A7%D9%8A%D8%A7-%D8%B7%D8%A8%D8%A7%D8%B4%D9%8A%D8%B1/%D8%B4%D9%8A%D8%A1-%D9%85%D8%A7/%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A3%D9%8A-%D8%B2%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A7