لقد أعز الإسلام العامل ورعاه وكرمه ، واعترف بحقوقه لأول مرة في تاريخ العمل ، بعد أن كان العمل في بعض الشرائع القديمة معناه الرق والتبعية ، وفي البعض الآخر معناه المذلة والهوان .
فقد قرر الإسلام للعمال حقوقهم الطبيعية – كمواطنين – من أفراد المجتمع ، كما جاء بكثير من المبادئ لضمان حقوقهم – كعمال – قاصداً بذلك إقامة العدالة الاجتماعية وتوفير الحياة الكريمة لهم ولأسرهم في حياتهم وبعد مماتهم .
كما دعا الإسلام أصحاب الأعمال إلى معاملة العامل معاملة إنسانية كريمة ، وإلى الشفقة عليه والبر به وعدم تكليفه ما لا يطيق من الأعمال إلى غير ذلك من الحقوق التي منحها الإسلام للعامل والتى يمكن إجمالها فيما يلى :
أولاً : حق العامل في الأجر :
أجر العامل هو أهم التزام ملقى على عاتق صاحب العمل ، ولذلك عنى به الإسلام عناية بالغة ، ولقد رأينا كيف يعد الإسلام العمل عبادة ويضعه فوق العبادات جميعاً ، ويجعل الأخ الذى يعول أخاه العابد أعبد منه ، وعلى أساس هذه النظرة المقدسة للعمل يقدس الإسلام حق العامل في الأجر ، ويحث على أن يوفي كل عامل جزاء عمله .
وقد ورد الأجر في القرآن الكريم في خمسين ومائة موضع ، وجاء وروده بالمعنى المتداول في الحياة العملية ، كما ورد في أسمى المعانى وأكثرها تجرداً في شؤون الحياة الدنيا وعرضها الزائل ، ومن الأمثلة على المعنى المتداول في الحياة العملية قوله تعالى : " قل ما سألتكم من أجر فهو لكم ، إن أجرى إلا على الله " ( سبأ : 47 ) .
وفي موضع آخر من قصة شعيب وموسى : " ... قالت إن أبى يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا " ( القصص : 25 ) . وفي هذين المثلين الأجر: هو ما عرفناه من عوض المشقة أو جزاءاً عن الخدمة .
كما نجد العمل في القرآن الكريم يذكر مقروناً بذكر الأجر ، يقول تعالى : " ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون " . ويقول تعالى : " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون " (التين 6 ).
وفي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم نجد أيضاً تلازماً بين الأجر والعمل ، وهذا كله عموم في الدنيا والآخرة – كما يقول ابن حزم. فجميع الآيات التى ذكر فيها العمل والأجر ليست خاصة بالأعمال ذات الطابع الدينى ، وإنما هو قانون عام شامل لكل نوع من أنواع العمل سواء كان عملاً دينياً أو عملاً دنيوياً .
ثانياً : حق العامل في الحصول على حقوقه التى اشترطها صاحب العمل :
يجب على صاحب العمل أن يوفي العامل حقوقه التى اشترطها عليه ، وألاّ يحاول انتقاص شيء منها . فذلك ظلم عاقبته وخيمة ، ولذلك يجب على صاحب العمل ألا ينتهز فرصة حاجة العامل الشديدة إلى العمل فيبخسه حقه ، ويغبنه في تقدير أجره الذى يستحقه نظير عمله ، فالإسلام يحرم الغبن ويقرر لا ضرر ولا ضرار .
كما يجب على صاحب العمل أن يحفظ حق العامل كاملاً إذا غاب أو نسيه ، وعليه ألاّ يؤخر إعطاءه حقه بعد انتهاء عمله ، أو بعد حلول أجله المضروب .
كما يجب على صاحب العمل ألا يضن على العمل بزيادة في الأجر إن أدى عملاً زائداً على المقرر المتفق عليه ، فإن الله يأمرنا بتقدير كل مجهود ومكافأة كل عمل .
ثالثاً : حق العامل في عدم الإرهاق إرهاقاً يضر بصحته أو يجعله عاجزاً عن العمل :
يجب على صاحب العمل عدم إرهاق العامل إرهاقاً يضر بصحته ويجعله عاجزاً عن العمل ، ولقد قال شعيب لموسى عليه السلام حين أراد أن يعمل له في ماله : " .. وما أريد أن أشق عليك " . ( القصص 27 )
فإذا كلفه صاحب العمل بعمل يؤدى إلى إرهاقه ويعود أثره على صحته ومستقبله ، فله حق فسخ العقد أو رفع الأمر إلى المسؤولين ليرفعوا عنه حيف صاحب العمل .
رابعاً : حق العامل في الاستمرار في عمله إذا نقصت مقدرته على الإنتاج :
ليس لصاحب العمل أن يفصل العامل عن عمله إذا انتقصت مقدرته على الإنتاج لمرض لحقه من جراء العمل أو بسبب هرم العامل وشيخوخته .
والقاعدة العامة أنه إذا اتفق صاحب العمل مع شاب على العمل فقضى شبابه معه ثم أصابه وهن في نشاطه بسبب شيخوخته مثلاً فليس لصاحب العمل طرده من العمل ، بل عليه أن يرضى بإنتاجه في شيخوخته كما كان يرضى عن إنتاجه في عهد شبابه وقوته .
ويرمز إلى هذه القاعدة ما تضمنه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم من أن رجلاً أرهق جملاً له في العمل فهرم فأراد أن يذبحه ليستريح من عبء مؤونته ، فقال له صلى الله عليه وسلم : " أكلت شبابه حتى إذا عجز أردت أن تنحره ، فتركه الرجل " .
خامساً : حق العمل في المحافظة على كرامته :
يجب على صاحب العمل أن يحفظ كرامة العامل ، فلا يضعه موضع الذليل المسخر أو العبد المهان . وفي الإسلام وحياة عظمائه كثير مما يؤيد ذلك الأصل الديمقراطى الكريم .
فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأكل مع الأجير ويساعده في احتمال أعباء ما يقوم به من عمل ، كما لا يصح أن يضرب صاحب العمل العامل أو يعتدي عليه ، فإن ضربه فعطب كان عليه الضمان .
سادساً : حق العامل في أداء ما افترضه الله عليه :
يجب على صاحب العمل أن يمكن العامل من أداء ما افترضه الله عليه من طاعة كالصلاة والصيام ، فالعامل المتدين أقرب الناس إلى الخير ويؤدى عمله في إخلاص ومراقبة وأداء للأمانة ، وصيانة لما عهد إليه به .
وليحذر صاحب العمل أن يكون في موقفه هذا ممن يصد عن سبيل الله ويعطل شعائر الدين " الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً ، أولئك في ضلال بعيد " ( إبراهيم 3 ) ، ويقول تعالى : " أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى . أرأيت إن كذب وتولى . ألم يعلم بأن الله يرى " ( العلق 11-14 ).
كما يجب على صاحب العمل أن يراقب العمال في سلوكهم ، ويحملهم بالحسنى على التمسك بآداب دينهم ، لأن مراعاة شعور التدين في العمال يجذب قلوبهم إليه ويجعلهم يخلصون في العمل والدفاع عن مصالحه وحمايته بكل وسيلة .
سابعاً : حق العامل في الشكوى وحقه في التقاضى :
لم تقتصر الأحكام الإسلامية الخاصة بعلاقات العمل على تنظيم القواعد الموضوعية المتصلة بحقوق العمال . وإنما تناولت هذه الأحكام أيضاً القواعد الإجرائية التى تنظم حق العامل في الشكوى وحق التقاضي .
فالإسلام لم يترك أطراف العقد فرطاً بل يسر لهم سبيل اقتضاء حقوقهم إن رضاءً أو اقتضاءً ، كما حرص أشد الحرص على المحافظة على حقوقهم ، واتخذ لذلك جميع الوسائل التى تحفظ هذه الحقوق وتصونها جميعاً .
ومن هذه الوسائل إقامة الحق والعدل بين الناس ، ذلك أن إقامة الحق والعدل هى التى تشيع الطمأنينة وتنشر الأمن ، وتشد علاقات الأفراد بعضهم ببعض وتقوى الثقة بين العامل وصاحب العمل وتنمي الثروة وتزيد من الرخاء وتدعم الأوضاع فلا تتعرض لأى اضطراب ويمضي كل من العامل وصاحب العمل إلى غايته في العمل والإنتاج دون أن يقف في طريقه ما يعطل نشاطه أو يعوقه عن النهوض .
وقد جاءت الآيات والأحاديث داعية إلى العدل ، ومحذرة من الظلم ومحرمة له ، والله سبحانه وتعالى لا يظلم الناس شيئاً بل لا يريد الظلم ، يقول تعالى : " وما الله يريد ظلماً للعباد " ( غافر : 31 ) .
وفي الحديث القدسي :" يا عبادى إنى حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً ، فلا تظالموا " .
وما هلكت الأمم السابقة إلا بظلمها وبغيها " ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا " ( يونس : 13 ) ، ويقول تعالى : " فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا " ( النمل : 52 ) .
ويقول تعالى : " ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع " ( غافر 18 )، ويقول تعالى : " وما للظالمين من نصير " ( الحج 71 ).
وفي الحديث " اتقوا المظلوم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة " ، وفي حديث آخر : " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " .
ثامناً : حق العامل في الضمان :
كلمة ضمان أو " تضمين " في الشريعة الإسلامية أقرب ما تؤدي المعنى المراد في كلمة " المسؤولية المدنية " في الفقه الحديث .
ومن الواضح أن تضمين الإنسان عبارة عن الحكم بتعويض الضرر الذي أصاب الغير من جهته .
وقد قرر القرآن الكريم – وهو الأصل الأول للتشريع الإسلامى – مبدأ المسؤولية المدنية في قول الله تعالى : " ومن قتل مؤمناً خطئاً فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله " ( النساء : 92 ) .
وقررتها السنة – وهى الأصل الثانى للتشريع – في عدة مناسبات ، فقررتها في الإتلاف المباشر ، عن أنس رضى الله عنه قال : أهدى إلى النبى صلى الله عليه وسلم طعام في قصعة ، فضربت عائشة القصعة بيدها ، فألقت ما فيها ، فقال النبى صلى الله عليه وسلم : " طعام بطعام وإناء بإناء " .
وقررتها على الرجل الذى يمد يده إلى مال الغير فيأخذه قهراً بدون إذن ثم يهلك ، فيقول النبى صلى الله عليه وسلم : " على اليد ما أخذت حتى ترد " .
وهذا أصل المسؤولية الناشئة عن الاستيلاء القهرى وهو المسمى في اصطلاح الفقهاء " بالغصب " .
هذا ومن يتتبع السنة في قضاء الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده يجد كثيراً من جزئيات المسؤولية المدنية .
وطبقاً للأسس المتقدمة يحق للعامل أن يطالب صاحب العمل بحقه في الضمان إذا توافرت شروطه التى عرضنا لها ، وله أن يلجأ إلى القضاء للمطالبة بتعريض ما أصابه من ضرر .
هذه هي أهم حقوق العمال ، وبها يكون الإسلام أوفى العمال حقوقهم وكرمهم ووفر لهم حياة كريمة وأقام عدالة اجتماعية .