رسالة مرعبة من الماضي السحيق.. التلوث يعود لمستواه قبل 15 مليون سنة
يقول علماء؛ إن سجلا تاريخيا جديدا لمستويات ثاني أكسيد الكربون يفترض أن الأهداف السياسية الراهنة المتعلقة بتغير المناخ ربما «تلعب بالنار» بعد أن اكتشفوا أن مستويات غاز ثاني أكسيد الكربون الحالية في الغلاف الجوي للأرض لم يكن لها مثيل أبدا في تاريخ الأرض إلا قبل 15 مليون سنة.
استخدم فريق العلماء رسوبيات المحيطات ليضعوا سجلا لمستويات ثاني أكسيد الكربون على مدى العشرين مليون عام الماضية. وقد وجدوا مستويات مماثلة لما يعتبر الآن كافيا لمواجهة تغير المناخ مرتبطة بمستوى سطح البحار والمحيطات أعلى من المستويات السائدة الآن بما يتراوح بين 25 و40 مترا.
ويقول العلماء الذين نشروا نتيجة بحثهم في مجلة «ساينس»، إن اكتشافاتهم من شأنها تعميق معرفتنا بالعلاقة بين المناخ وثاني أكسيد الكربون على مر العصور.
وقد رسم الفريق خارطة جيدة نسبيا لمستويات ثاني أكسيد الكربون في الثمانمائة ألف سنة الماضية من خلال حفر أعماق الجليد في القارة القطبية الجنوبية (أنتاركتيكا)، حيث تركت درجات الحرارة وتركيب الهواء على مر العصور قرائن كيميائية في أعماق طبقات الجليد.
ومن خلال تحليل كيمياء فقاعات الهواء المحتجزة أثناء تكون طبقات الجليد القديمة في القارة القطبية الجنوبية، تمكن العلماء من تحديد تركيب الغلاف الجوي للأرض أثناء تلك الحقبة. وطوروا فهما أفضل للكيفية التي تباينت من خلالها مستويات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي عبر هذه السنوات. في حينه ودرجة حرارته.
وقبل هذه الدراسة، كان التفتيش في أعماق الجليد عن العصور التاريخية الأقدم دائما أمرا تغلفه الصعوبات والإشكاليات. ويحتوي السجل الجديد على تقديرات أكثر دقة من التقديرات السابقة للعشرين مليون سنة الماضية.
وقد تمكن البحث الجديد من الغوص حتى العصر الميوسيني، الذي بدأ قبل نحو عشرين مليون عام. وفي بداية ذلك العصر، كانت تركيزات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي مستقرة عند مستوى 400 جزء في المليون قبل أن تبدأ منذ نحو 14 مليون سنة- وهو التحول الذي أدى في نهاية المطاف إلى تشكل قلنسوة أنتاركتيكا الجليدية وبحر الجليد المستدام الذي يغطي القطب الشمالي لكوكبنا.
وربما كان استقرار مستويات ثاني أكسيد الكربون العالية عند هذا المستوى طوال تلك الحقبة يعود للنشاط البركاني المستمر في المنطقة التي تعرف الآن باسم «وادي نهر كولومبيا» في أمريكا الشمالية، حيث التكوينات الصخرية، التي تسمى «فيضانات البازلت»، ترتبط بتاريخ من التدفق المتواصل للصخور المنصهرة على سطح الكوكب. وفي بضعة ملايين السنين اللاحقة، كانت تركيزات ثاني أكسيد الكربون أقل بكثير، وفي الحقبة التالية تراوحت تركيزات ثاني أكسيد الكربون بين 180 و280 جزءا في المليون، في سياق تعاقبت فيه العصور الجليدية والفترات الأدفأ التي كانت تسيل فيها الأنهار الجليدية.
والآن، تدفع الانبعاثات البشرية من الغازات المسببة للاحتباس الحراري نحو مستوى تركيزات 400 جزء في المليون، وهو مستوى من المحتمل جدا أن نصل إليه في غضون عقد واحد من الزمن.
وتقول د.آرادنا تريباتي، قائدة فريق العلماء والأستاذة المساعدة في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس (UCLA): «ما اكتشفناه هو أنه خلال آخر حقبة كانت فيها مستويات ثاني أكسيد الكربون مستقرة عند مستويات قريبة من حيث هي اليوم، لم تكن هناك قلنسوة جليدية تغطي القارة القطبية الجنوبية وكان مستوى المياه في البحار والمحيطات أعلى مما هو عليه اليوم بما يتراوح بين 25 و40 مترا».
وتضيف د. تريباتي: «عندما تكون مستويات ثاني أكسيد الكربون مستقرة أو قريبة من تركيزات اليوم، لا تحتاج إلى تغييرات كبيرة في مستويات ثاني أكسيد الكربون لكي تحدث تغييرات كبيرة في طبقات الجليد».
وكان ارتفاع مستويات ثاني أكسيد الكربون ومستوى سطح البحار والمحيطات في تلك الحقبة مرتبطا بدرجات حرارة أعلى بما يتراوح بين 3 و6 درجات من متوسط درجة الحرارة على كوكبنا اليوم.
كانت د. تريباتي قبل قيادتها لهذه الدراسة عضوا في فريق علمي تابع لجامعة كمبريدج البريطانية طوَّر تقنية جديدة لتحديد تركيزات ثاني أكسيد الكربون في عصور تاريخية أقدم بكثير من تحليل نسبة عنصري البورون والكالسيوم في أصداف كائنات بحرية دقيقة تسمى «المنخربات Foraminifera» (حيوانات بحرية دنيا مثقبة الأصداف).
وتكشف هذه النسبة درجة حموضة مياه البحر في الزمن الذي عاشت فيه تلك الكائنات، وهذا بدوره يسمح للعلماء بحساب نسبة ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي.
وحصل العلماء على بقايا الأصداف من خلال ثقوب حفروها في قاع المحيط الهادي.
ووفقا لجوناثان أوفربك، الأستاذ بجامعة أريزونا والذي شارك في رئاسة الفريق التابع للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ الذي كلف بدراسة المناخات القديمة في التقرير الكبير الذي أصدرته الهيئة العام 2007، فإن هذا يوفر نظرة أكثر دقة لكيفية ارتباط تركيزات ثاني أكسيد الكربون في الماضي بالمناخ مقارنة بالأساليب السابقة.
يقول د.أوفربك: «هذه دراسة أخرى تجعل المستقبل يبدو مخيفا أكثر بكثير مما اعتقده الكثيرون في السابق. وإذا كان هناك أحد لا يزال يشك في العلاقة بين ثاني أكسيد الكربون وتغير المناخ فعليه أن يقرأ هذه الورقة».
وتؤكد د. تريباتي أن الدراسة الأخيرة لا تذهب بالضرورة إلى أن الوصول إلى هذه المستويات العالية من تركيزات ثاني أكسيد الكربون شأنه أن يؤدي حتما إلى تغييرات كبيرة في مستوى سطح البحر، أو أن هذه يمكن أن تحدث بسرعة- لكنها تذهب إلى أن مجرد استدامة هذه المستويات في فترة زمنية طويلة قد ينتج مثل هذه التغييرات.
وتضيف: «لا يوجد أي تناظر كامل بين الماضي وتغير المناخ اليوم أو في المستقبل. غير أنه يمكننا القول إننا حددنا النقاط الحرجة لاستقرار الغطاء الجليدي في الماضي، والفيزياء الأساسية التي تحكم طبقات الغطاء الجليدي التي تعلمناها من العينات الجليدية تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك ، وأعتقد أننا يجب أن نستخدم معرفتنا لفيزياء تغير المناخ في الماضي للتحضير للمستقبل».
نقطة الخطر
في مؤتمر قمة الأرض في ريو دي جانيرو العام 1992 ، تعهدت الحكومات بتثبيت تركيزات غازات الدفيئة «عند مستوى يحول دون تدخل خطير من جانب الإنسان في النظام المناخي». لكن تحديد هذا المستوى أصبح منذ ذلك الوقت محور خلاف وموضوعا لنقاشات حادة بين العلماء ونشطاء البيئة والسياسيين من صناع القرار. لكن مستوى الـ450 جزءا في المليون يبقى الرقم الذي يحظى بإجماع واسع. وعلى سبيل المثال، أصدرت وكالة الطاقة الدولية (IEA) أخيرا وصفة طبية من أجل التصدي لتغير المناخ رأت فيها أن نقطة الذروة لتركيزات غازات الدفيئة التي يجب ألا نتجاوزها أبدا هي 510 أجزاء في المليون قبل أن نبدأ العمل على تثبيت هذه التركيزات عند مستوى 450 جزءا في المليون.
ويقول د. أوفربك: «المشكلة هي أننا لا نعرف بدقة أين هي بالضبط العتبة الحرجة لتركيزات ثاني أكسيد الكربون أو لدرجة الحرارة التي سيصبح بعدها انهيار الغطاء الجليدي أمرا لا مفر منه... وقد يكون ذلك عند مستوى أقل من 450 جزءا في المليون، غير أنه على الأرجح سيكون أعلى- لكن ليس بالضرورة أعلى بكثير- من 450 جزءا في المليون».
ويضيف: «لكن الدراسة الجديدة تفترض أن الجهود الرامية إلى تثبيت مستوى تركيزات ثاني أكسيد الكربون عند 450 جزءا في المليون يجب أن تتجنب تجاوز هذا الحد قبل الوصول إلى نقطة الاستقرار- وأي تجاوز لهذا المستوى قبل الوصول إلى نقطة الاستقرار سيكون لعبا بالنار».
وبسبب المخاوف من ارتفاع مستوى سطح البحار والمحيطات على المدى القصير، تضغط «رابطة الدول الجزرية الصغيرة»، التي تضم بلدانا منخفضة السطح مثل جزر المالديف وبالاو وجرينادا، من أجل تبني المجتمع الدولي لمستوى تركيزات أقل بكثير، هو 350 جزءا في المليون» ولكن مع تركيزات أعلى بكثير بالفعل، فإن الدعم السياسي لمستوى مثل هذا هزيل للغاية خارج الرابطة.
أحمد خضر الشربيني