أرض الشهداء
كان اسمها معروفاً عند العرب قبل الإسلام، وكانت في الأحقاب السابقة مقبرةً للنصارى، وشاء الله أن تحتضن ثلةً من الشهداء النبلاء فيخلد اسمها في التاريخ إلى الأبد.
كانت بقعةً خصبةًً من الأرض، غنيةً بالعيون وروافد الأنهار، تقع في منطقة الفرات الأوسط قرب مجرى الفرات. في العام 14 للهجرة، اتخذها المسلمون قاعدةً لمعسكرهم بعد تقهقر يزدجرد وانسحابه إلى داخل ارض فارس.
في العهد الإسلامي الأول، تذكر بعض الروايات أن الصحابي الجليل سلمان الفارسي مرّ بها عند مجيئه من المدينة، فسأل: ما يسمون هذه؟ قالوا: كربلا. فقال: "هذه مصارع إخواني، هذا موضع رحالهم، وهذا مناخ ركابهم، وهذا مهراق دمائهم. قُتل بها خير الأولين، ويُقتل بها خير الآخرين". ثم سار حتى انتهى إلى حروراء (التي ستشهد حرب الخوارج) فسأل: ما تسمون هذه الأرض؟ قالوا: حرورا، فقال: "خرج بها شر الأولين ويخرج بها شر الآخرين". ثم سار حتى انتهى إلى الكوفة، فبادر للقول: هذه الكوفة! فأجابوه: نعم، قال: قبة الإسلام". (بحسب رجال الكشي). قبةٌ لم يدم مجدها إلا أربع سنوات، بقية فترة الخلافة الراشدة، التي أعقبها ذلك الملك العضوض.
رواية مشابهة يرويها الشيخ المفيد في "الإرشاد"، عن مرور الإمام علي (ع) على كربلاء في طريقه إلى صفين، فوقف متأملاً أطلالها وآثارها، ثم استعبر وقال: "هذا مناخ ركابهم وموضع قتلهم"، فسأله أصحابه: ما هذا الموضع؟ فأجاب: "هذه كربلاء، يقتل فيها قومٌ يدخلون الجنة بغير حساب"، ولما رأى حيرتهم أضاف: "ثقلٌ لآل محمدٍ ينزلون هنا". وما هي إلا عشرون عاماً، حتى تحققت النبوءة وأناخوا الركاب.
هذه القرية الصغيرة شهدت معركةً لم تدم أكثر من ساعتين، بعد ظهيرة العاشر من المحرم عام 61 هجرية، ولكنها غدت ملحمةً خالدةً في وجدان البشرية، لما تضمنته من مشاهد دامية يشيب لها الولدان. وتسجّل الروايات ما تثيره أسماؤها المتعدّدة من مشاعر لأول وهلةٍ لدى السامعين، من العقر والنواويس والغاضريات (الغادريات)، وتختتم باستعاذة الحسين (ع) من اسمها قائلاً: "أرض كربٍ وبلاء"، ففيها كان الكرب والبلاء الأعظم على أسرة محمد (ص).
كربلاء اليوم مازالت مدينةً صغيرةً، تحتفظ بآثارها القديمة، من بينها مقامٌ يُعرف بالقنطرة البيضاء، ترتبط بواقعة مرور الإمام علي (ع). ومنها ما يتعلق ببعض مشاهد وأحداث الواقعة، ففي كل زاوية من هذه البقعة المحيطة بالحرم الحسيني، هناك ذكرياتٌ دامعةٌ، أو موقع سقط فيه شلوٌ مقطّع، أو عُثر فيه على إصبع مبتور.
على بعد عشرة أمتار من سور الحرم، يقوم "التل الزينبي"، الذي وقفت عليه زينب بنت علي (ع) وهي تراقب المعركة التي حُسمت سريعاً. هذا التل شهد وقوفها مرة أخرى وهي تستصرخ إخوتها المصرَّعين لينجدوها بعدما هجم الجيش الأموي على خيام النساء، في واحدة من الحوادث البربرية غير المسبوقة بعد الإسلام.
على بعد عشرات الأمتار، هناك موقعٌ لخيام النساء؛ وهناك مقامان آخران، أحدهما لموقع سقوط كف العباس اليمنى، والثاني لموقع سقوط كفه اليسرى. كان قائد جيشٍ صغيرٍ من الفرسان النبلاء، عُرف بشجاعته، وتغنّى ببطولاته شعراء الطفّ عبر العصور.
في هذه الأرض احتفظت ساحة المعركة بعذريتها، حتى لا تنمحي من ذاكرة الأجيال، ولتحتفظ بمعالم جريمة جيشٍ تجاوز في قتاله كل الخطوط والأخلاق، وفاقت بشاعته كل خيال.
قاسم حسين
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 3022 - الأربعاء 15 ديسمبر 2010م الموافق 09 محرم 1432هـ