11 محرم... محاولةٌ للفهم

11 محرم... محاولةٌ للفهم
ذكر أحد الباحثين أن الفترة ما بين إعلان رفض الإمام الحسين (ع) البيعة ومقتله في كربلاء 175 يوماً، قضى منها 12 يوماً بالمدينة، وأربعة أشهر وعشرة أيام في مكة، و23 يوماً في طريقه إلى العراق.

القوافل المسافرة براً تنزل للراحة والتزود بالماء الشحيح في الصحراء. وفي طريقها للعراق نزلت قافلة الحسين في 18 منزلاً، يفصل بينها ثلاثة فراسخ. وإذا كان الفرسخ يساوي ثلاثة أميال، والميل حوالي كيلومتر ونصف، فالقافلة كانت تنزل كل 15 كيلومتراً من السير البطيء على ظهور الجمال.

إذا أردنا أن نفهم ما جرى على القافلة، فلنتذكر كيف تنزل القوافل الحديثة في محطات الاستراحة للتزود بالمؤن، وما يلقاه المسافر منا من مشقة وعناء، مع أننا نقطع 1200 كيلومتر إلى مكة في نصف يوم. أما تلك القافلة فقطعت المسافة نفسها تقريباً (1280 كم) بين مكة المكرمة وكربلاء في 23 يوماً... مع الفارق بين السير في حافلةٍ مكيفةٍ محميةٍ من تقلبات الجو، وبين السير على ظهور جمالٍ هُزّل، في نقلةٍ كبيرةٍ من أجواء الحجاز الحارة، إلى العراق ذي الجو الجاف.

الكتاب والباحثون لا يغوصون عادةً في هذه التفاصيل، لكن يمكنك أن تتخيّل يوميات القافلة بقليلٍ من المقارنات. فالقافلة التي ضمت كوكبةً في حدود المئة، نصفهم تقريباً من النساء والأطفال، كيف كانوا ينزلون في المحطات القديمة، وكم كان يتوافر لهم من زادٍ وماء؟ وكيف كانوا يتكيّفون مع الأنواء الجوية وهبوب الأتربة والرياح في فصل الخريف ذاك (بين أكتوبر ونوفمبر)؟ وهل كان يتوافر لهم ماءٌ كافٍ للاغتسال كلّ يومٍ أو بضعة أيام؟ وإذا كان المسافر الآن يتوفر على مرافق صحية في الطريق، فماذا كان متوافراً في ذلك الزمان في تلك الصحارى الموحشة المترامية الأطراف؟

في الصحراء الأخيرة التي أناخوا بها ركابهم، وشهدت حصارهم ومنع الماء عنهم، بقوا ثمانية أيام انتهت بمقتل رجالهم، وحرق خيامهم، ولما جنّ الليل كانت اللوحة قاتمة السواد. أكثر من ثلاثين طفلاً، وعشرين امرأة وجدوا أنفسهم بين ليلةٍ وضحاها ضائعين في الصحراء.

في صبيحة مثل هذا اليوم، الحادي عشر من المحرم 61 للهجرة، ساق الجيش الأموي ما تبقى من القافلة إلى الكوفة، لإدخالها على الأمير الجديد الذي دشّن ولايته بهذا الفصل الدامي من تصفية الخصوم.

وسط كلّ هذا الرماد والفجيعة والأحزان، تنتصب سيدةٌ في الخمسين من عمرها، في مجلس الوالي، يقول بعض الرواة إنها كانت مكبّلةً بالأغلال وسط الصبية الأيتام، لتومئ للجمع المحتشد في قصر الإمارة بالسكوت، لتمطره بوابلٍ من قوارع الكلم. تتكلّم وكأن أحداً من إخوانها التسعة، أو أولادها الأربعة، لم يصبهم كلمٌ أو يُرق لهم دم، مبتدئةً بتقريع القتلة: «لقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترضوها أبداً، قتلتم سليل خاتم النبوة، ومعدن الرسالة، وسيد شباب أهل الجنة ألا ساء ما تزرون».

وانثنت تقرّع الوالي الذي حاول إثارتها بمقتل رجالها: «إنما يُفتضح الفاجر ويكذب الفاسق، وهو غيرنا... هؤلاء قومٌ كتب اللهُ عليهم القتلَ فبرزوا إلى مضاجعهم, وسيجمع الله بينك وبينهم، فتحاج وتخاصم يومئذٍ... ثكلتك أمك يابن مرجانة».

كان ينتظر هذه السيدة وأطفالها فصولٌ جديدة من المعاناة والعذاب، ودخول القصور المتهتكة، ولقاء طوابير من النظّارة عند مداخل المدن في الشام، قبل أن تعود القافلة بعد أسابيع إلى مدينة جدّها محمد (ص). لم تعمّر بعدها طويلاً، فقد قضت بعد عامٍ واحدٍ، ودُفنت في الشام.




قاسم حسين
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 3024 - الجمعة 17 ديسمبر 2010م الموافق 11 محرم 1432هـ