يهودي هذا الزمان من ضحية إلى قاتل
علي محسن حميد
صحيفة الحياة اللندنية 25/8/2006
كان اليهودي إلى عهد قريب في الغرب إنساناً مسالماً، من مستضعفي الأرض، منبوذاً، مهمشاً، مكروها، غير موثوق به، مضطهداً، يتطلع فقط إلى مساواته بغيره، متهَماً لكن ليس بنفس تهم مثاله المعاصر أرييل شارون، وإن برز علم منهم هنا أو هناك في هذا المجال أو ذاك فهو الاستثناء غير المرغوب فيه عن القاعدة.
كانت البيئة الغربية المسيحية معادية لليهود حتى العظم، وحتى الثلاثينيات من القرن الماضي كان إذا سمع أحد البريطانيين يهودياً يتحدث بالعبرية في الشارع ذكّره بأن عليه ألا ينسى أنه في إنكلترا. وأثناء الحرب العالمية الثانية تباطأت أو رفضت بعض الدول الغربية إيواء يهود هاربين من جحيم النازية الأولى، نازية القرن العشرين، وكان على رأس هذه الدول الولايات المتحدة الأمريكية.
"إسرائيل" القوية والمهيمنة الآن على كل السلطات في أميركا عن طريق اللوبي الإسرائيلي لا تنفك تذكر الولايات المتحدة بهذا الإثم ناسية كل المليارات الأميركية وعشرات الفيتوات والعتاد العسكري الذي يقدر بالمليارات أيضاً الذي سهل لها الاستمرار في احتلال الأراضي العربية.
"إسرائيل" كانت حتى عدوان عام 1967 تتردد كثيراً في الحديث عن المحرقة ولكن تحقيق عدوانها لأهدافه أزال التحفظات الأميركية على أهمية إثارة هذه المسألة. واستكمالاً لما بدأ عام 1967 تريد واشنطن وضع خاتمة سعيدة لكوارثنا ونكباتنا التي هي طرف أساس فيها بإقامة شرق أوسط جديد محل القديم الذي لم يعد يروق لها لنكون توابع وتوائم لأوروبا الجديدة التي أراد دونالد رامسفيلد أن تحل محل أوروبا العجوز التي انتقدها عندما خالفته الموقف من عدوان بلاده على العراق عام 2003.
يراد لنا الآن أن نتجدد في شرق أوسط جديد غير معروفة ملامحه وأطرافه وجسده وروحه وأهدافه، والمهم فقط هو ألا يعرف طريقاً للخلاف مع واشنطن مثل أوروبا الجديدة. شرق أوسطنا الجديد فصله الأول جرائم "إسرائيل" ووحشيتها في لبنان وفلسطين، وخاتمته قبول الهيمنة الإسرائيلية وليس الديموقراطية التي ارتبطت بالشرق الأوسط الكبير الذي أعلن عنه بمناسبة احتلال العراق وتحوله إلى بلد ديموقراطي نموذجي!
كوندوليزا رايس وزيرة خارجية أميركا و"إسرائيل" معاً والناطقة باسم "إسرائيل" في الحرب على لبنان لم تلفظ هذه العبارة إلا خلال هذه الحرب التي لم تنته فصولها بعد والتي تنبئ بأن الشرق الأوسط الجديد ليس وليد اللحظة العدوانية الإسرائيلية وإنما تم درسه في كل من واشنطن وتل أبيب. مشروع خطير كهذا لا يمكن أن يأتي عفو الخاطر. إنه المشروع المشبوه الذي يتوج هيمنة "إسرائيل".
"إسرائيل" بالدم والأشلاء والترانسفير الداخلي في لبنان تود إعادة رسم خريطة المنطقة بدون شريك، فكل رئيس وزراء إسرائيلي يقدم أوراق اعتماده إلى الناخبين بسجل حافل بالمجازر حتى أصبح من المألوف في "إسرائيل" ومن المقبول في الغرب أن رئيس الوزراء الدموي المتشدد هو الأكثر قدرة على إقناع يهود "إسرائيل" بالسلام. ومن أنضجته الشدائد مثل إسحق رابين كان مصيره القتل ولم يحمه رصيده العسكري البارز الذي توجه باحتلال القدس الشرقية عام 1967 من الاغتيال على يد متشدد توراتي لم يجرؤ أحد على وصفه بالإرهابي، لأن اليهودي إما متطرف أو متشدد، أو متعصب فقط، عكس العربي المتهم بالإرهاب حتى وهو في بطن أمه. إيهود اولمرت رئيس الوزراء الحالي سيذكره التاريخ كجزار قانا الثاني. وهل من المتصور أن يكون لرئيس وزراء إسرائيلي سجل أبيض؟ جزار قانا الأول كان بيريز صاحب غارات «عناقيد الغضب» عام 1996 وهو الوحيد من بين ساسة العالم الذي برهن أن هناك استثناء لمقولة «تستطيع أن تخدع كل الناس بعض الوقت، وتستطيع أن تخدع بعض الناس كل الوقت ولكنك لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت». بيريز وهو في خريف عمره لا يزال قادراً سواء كان في حزب يساري أو حزب يمين الوسط أن يتذاكى ويتلاعب بالألفاظ ويطوعها لخدمة المشروع الإسرائيلي مثل تبريره لجرائم زعيمه الجديد أولمرت بوصفها بأنها «معارك حياة أو موت لإسرائيل». بيريز هذا حصل على جائزة نوبل للسلام!!
ساسة "إسرائيل" ليسوا نموذجاً فريداً. هم في الواقع امتداد ثقافي وعسكري للغرب الاستعماري الإمبريالي. أرجو ألا يسخر أحد من استخدام هاتين الكلمتين. علينا أن ندرك أن مستشارين بريطانيين أفتوا قبل سنوات قليلة بجواز إعادة استعمار المستعمرات السابقة إذا تدهور وضعها إلى وضع الدولة الفاشلة وأجازوا انتهاك القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة لتبرير «التدخل الإنساني» أو «التدخل الليبرالي» الأحادي الجانب لإعادة تنظيم العالم Reordering the world بحسب أفكار البعض. "إسرائيل" جزء لا يتجزأ من المشروع الاستعماري الجديد للحلف الأطلسي الذي يريد أن يتمدد ويتوسع في المنطقة العربية بدءا بالسودان ولبنان. من ناحية أخرى فإن من يحكم "إسرائيل" هي مؤسسة عسكرية يقودها فعلاً الجنس الأبيض، الذي يود مواصلة تحمل «عبء الرجل الأبيض» في المنطقة العربية، إما بالشراكة أو بايكال الدور كلية لـ"إسرائيل" كما هو حادث الآن في لبنان. يستحيل أن تكون "إسرائيل" كما تزعم امتداداً حضارياً أو ثقافياً للغرب ألا في هذا السياق. سياق استخدام القوة والاستعلاء العنصري والتميز الذي كان ينسب للمركزية الأوروبية لأن تدمير بلد وقتل وتشريد أهله ليس عملاً حضارياً البتة إلا من زاوية تراه تطبيقاً لسياسة «الفوضى الخلاقة». "إسرائيل" جزء من منظومة غربية ترى في القوة واستخدامها أمراً طبيعياً ومن متطلبات السوق، سوق السلاح، وضرورة استخدامه بين حين وآخر لتطويره أو استبداله أو بيع خردته لنا.
الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش وتوني بلير رئيس وزراء بريطانيا من صنف القادة الإسرائيليين الذين يفضلون استخدام القوة العسكرية لتحقيق المصالح الوطنية أو مصالح الحليف التي تدعم مصالحهم الاستراتيجية. في حرب كوسوفو التي كانت حربه بامتياز كان بلير في غاية الإنسانية حين بشر بـ «أممية جديدة» قائمة على القيم وحكم القانون ووعد لاجئي كوسوفو بالعودة إلى وطنهم، إلى الأرض التي هي ملك لهم. هذا قطعاً ليس موقفه من حق العودة للاجئين الفلسطينيين الذين يعلم بلير أو لا يعلم أن العصابات المسلحة اليهودية بدأت عملية تطهير عرقي ضدهم لا تقل وحشية عما قام به سلوبودان ميلوسوفيتش في كوسوفو وذلك بعد صدور قرار تقسيم فلسطين عام 1947 ومباشرة بعد إعلان بريطانيا أنها ستنهي انتدابها لفلسطين تاركة الفلسطينيين لأول تطهير عرقي بعد الحرب العالمية الثانية سببه تخلي بريطانيا عمداً عن حمايتها لهم بموجب نظام الانتداب الدولي الذي قررت من طرف واحد إنهاءه عندما رأت أن أركان ومقومات إنشاء دولة "إسرائيل" قد اكتملت.
اليهودي التائه قديماً هو الذي يشرد الأغيار حديثاً. اليهودي ضحية الاضطهاد والتمييز الثقافي والديني الغربي الذي دام قروناً طويلة هو الجلاد الآن. اليهودي الذي بدأ العد التصاعدي لتحريره من التمييز والاحتقار في عصر الأنوار هو الذي لا يريد النور والحرية لغيره ويمارس سياسة الأرض المحروقة والتنكيل العرقي الذي سيتطور إلى تطهير عرقي جديد يطال اللاجئين الفلسطينيين في لبنان عندما تعجز واشنطن عن فرض سياسة توطينهم فيه.
* كاتب يمني.