اسألني يا ولدي عن الفساد!
هناك ابن لا يعرف ما تعني كلمة الديمقراطية، الرأسمالية، والفساد، إذ من المفترض أن لا تكون منفصلة عن الواقع السياسي المحيط بها.
وتمثلت هذه المعرفة في قصة طريفة فصلت هذا المشهد، إذ سأل ابن والده ما معنى الرأسمالية وماذا تعني كلمة الفساد وما المقصود من المقولة التي تقال للعجوز «ما أفسده الدهر لا يصلحه العطار»، وما المعنى من تحرير التجارة لصالح الفرد ومنهم النخب أحقاً هم النواب وغيرهم؟
استغرب والد الطفل من حجم الأسئلة، ولكن لا مفر أمامه فكان يجب عليه الإجابة فهذا ما يتناوله الصبية قبل الكبار في الحي. فأجابه لن أخبرك يا بني على كل تلك الأسئلة ولكن دعني أوضح لك علك تستنتج الإجابة على كل تلك التساؤلات.
فقال أترى تلك البقالة التي بجوارنا التي يفوق عمرها الخمسين عاماً وهي مازالت على حالها لا تبيع سوى معلبات الصلصل و»اللوبه والجبن والروتي» فسنطلق عليها اسم العجوز، والخادمة التي تعمل لدينا وتسهر على خدمتنا حتى منتصف الليل وشغلها الشاغل الذهاب إلى تلك البقالة فسنطلق عليها اسم القوى الكادحة، والمدرسون في المدرسة الذين يقومون على تعليمك سنطلق عليهم اسم النخب، ومقصف المدرسة الذي يبيعكم وجبتكم فسنطلق عليه اسم تحرير التجارة لصالح الفرد، وبما أني اصرف على البيت لذلك فلنطلق علي اسم الرأسمالية وأمك تنظم شئون البيت لذلك فسنطلق عليها اسم الحكومة وأنت تحت تصرفها لذلك فسنطلق عليك اسم الشعب وأخوك الصغير هو أملنا فسنطلق عليه اسم المستقبل.
فرح الابن بهذا التنظير المفصل الذي سيترك له المجال للاستنتاج كما البحوث المدرسية. وفي صباح اليوم التالي همّ الابن للذهاب إلى المدرسة وفي طريقه استوقفته البقالة القديمة التي في حيهم، وسأل نفسه كيف لصاحب هذه البقالة لم ينجح في تطويرها طوال الخمسين سنة الماضية حيث مازالت تبيع «اللوبة والصلصل والروتي» على الرغم من تلك الرواتب المجزية التي تدفعها لعمالها، فهم بسؤال العامل عن سبب هذا التردي فرد عليه العامل قائلاً: إن هذه البقالة لمواطن جل همه أن تكون موجودة بالحي وإن كانت تخسر، ونحن موظفون بعقود لا يهمنا إن ربحت أم خسرت، ففي النهاية نقبض رواتبنا وحوافزنا، كما أننا ربحنا كأفراد، بتكوين شركاتنا الخاصة في أوطاننا.
فشكره وواصل طريقه إلى المدرسة وفي الفسحة ذهب ليشتري وجبته وبعد شرائه للوجبة استراح مع صديقه كي يتناولاها وحينها سأل صديقه عن مقصف المدرسة، فقال له إن أبي اخبرني أن المقصف كان أرخص من الآن إذ كانت الوجبة لا تكلف المئة فلس حين كان يدار من قبل الوزارة أما الآن فحدث ولا حرج، تماما مثل ما يعانيه أبي الآن وهو ذاهب ليشتري لنا حاجيات المنزل الضرورية، كما أن أبي لا ينام الليل بسبب خوفه من انقطاع معونة غلاء المعيشة، فضحك الولد فقال صديقه ما الذي يضحكك في معاناة أبي، فرد عليه أني لا أضحك على حال أبيك ولكني الآن عرفت معنى تحرير التجارة لصالح الفرد، وبعد الفسحة ذهب مجددا للصف وهو سعيد بما لاقاه من النخب «المدرسين» في أول أربع حصص وعندما دخل عليهم مدرس المادة المخصصة حدد لهم صفحات من الكتاب يقرأونها ومدد رجله على الطاولة وهو جالس على الكرسي ونام، وعند انتهاء اليوم الدراسي سأل الابن المدرس لماذا نمت وهذا وقت للشرح، فرد المدرس عليه قائلاً: لا فائدة فكل ما نقوم به يحسب للمدير المساعد أو مدير المدرسة بما فيها مقترحاتي برغبة أم بقانون، فحزن الابن من هول ما سمع ورجع إلى المنزل وحرص أن لا يزعج والده بما سمعه ورآه وهو في طريقه للمدرسة إلا في اليوم التالي صباحاً، مراعياً والده أن يأتي من العمل وهو متعب.
وفي نفس اليوم بالليل سمع صوت أخيه الصغير يبكي فذهب إليه فوجده مبللاً على السرير فذهب ليخبر أمه فوجدها نائمة ولم تستيقظ، عندما حاول أن يوقظها وتعجب بأن أباه ليس نائماً بجوارها، فذهب باحثاً عن أبيه فنظر من ثقب الباب إلى غرفة الخادمة فوجد أبوه نائماً بغرفة الخادمة.
وفي الصباح قال لوالده لقد عرفت إجابة كل تلك التساؤلات التي طرحتها عليك يوم أمس ففرح الأب وقال هذا الشبل من ذاك الأسد هذا أبني الذي ربيته على الفضيلة وحسن استعماله لعقله أخبرني بما عرفت، قال أما العجوز التي أخذت خمسين سنة ولم تحسن من نفسها، لقد أسست شركات شخصية للعاملين بها، فالعامل راجو اشترى مزرعة في بلده، وبابو أسس بقالة أكبر منها في بلده وهو الآن يمد بقالة حيناً بمعلبات الصلصل و»اللبوه»، كذلك البائع سونيل صحيح مازال يعمل بها ولكنه يملك مخبزاً ويمدها «بالروتي» كل يوم، أما تحرير التجارة لصالح الفرد فإني أرجوك أن تعين جارنا، حيث إنه لا يستطيع شراء حاجيات أبنائه إذا ما انقطعت معونة غلاء المعيشة، أما النخب فأرجو أن لا تكون منهم فجل همهم ما تم احتسابه لهم وعليهم واستفادوا، أما الرأسمالية والفساد فهذا يعني عندما تلهو الرأسمالية مع القوى الكادحة وتكون الحكومة نائمة في سبات عميق يصبح الشعب قلقاً تائهاً ومهملاً ويصبح المستقبل لا رجا يرتجى منه، فتسمر الأب.
ثم تابع الابن قائلاً: يا أبي أن ما أخذناه اليوم في درس البلاغة لهو أبلغ تعبير لتساؤلاتي حين قال الشاعر:
تعاتبني بذنب أنت فاعله ... وأنت ألفت بين الشاة والذئب
والشاة تعلم أن الذئب آكلها... ويعلم الذئب لحم الشاة من طيب.
وانتهت القصة على ذلك.
سلمان ناصر
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 3064 - الأربعاء 26 يناير 2011م الموافق 22 صفر 1432هـ