مصر اليوم هى زليخة العزيزة
الأربعاء, 20 إبريل 2011 - 01:21 am | عدد الزيارات: 2577
د . محمد سكر
عندما اختار الرئيس السادات (رحمه الله) أن يُسلْم صناعة القرار المصرى طواعية لأميركا ظن أن هذا ما سيجلب الرخاء إلى شعب مصر. لكن العواقب كانت وبالا على مصر. لم يكن اندفاع السادات نحو أميركا مؤسسا على حساب للعواقب بقدر ما كان إستجابة لعاطفة جياشة نحو النموذج الأمريكى الرأسمالى الإنفتاحى. إندفع السادات لأميركا لفرط حبه وإنبهاره بنمط حياة الفخفخة، ذلك الحب الذى أعمى حسه عن إدراك مزالق فِعلته والتى كانت أشدها ضررا على أمن مصر هى إرضاؤه لإسرائيل من أجل عيون أميركا.
وقد عبّر الشاعر أحمد فؤاد نجم عن هذه العلاقة الثلاثية بقصيدة ساخرة بعنوان "زليخة وجوزيف". كانت زليخة هى مصر السادات وجوزيف هو العدو الصهيونى، أما الرئيس الأميركى (نيكسون أوكارتر) فكان إسمه فى القصيدة عزيز.
تقول القصيدةعلى لسان زليخة: "قابلته ياعزيز - قابلته فى باريز - يهودى وإسمه جوزيف طِعِم قوى ولذيذ - هويته يا عزيز. عيونه كالغزال وريقه كالزلال - وراشق سيف هلال تبَعْ حرب المعيز - ناديته ياعزيز. وعدنى بمليارين فى ظرف رقصتين - حألاقى زيّه فين طلاينة وإنجليز - وافقته ياعزيز. ورقصنا يا عزيز وهِصنا يا عزيز وصهْلل اللذيذ - وجِهْ عبد العزيز فغمزته يا عزيز. فِهِمنى الواد قوام - خلَع من دون كلام - دخل جوزيف ونام وصبحنا فى باركليز - وصرفنا يا عزيز".
باعت مصر كرامتها لترضى جوزيف الإسرائيلى حبا فى عيون عزيز الأميركى. فماذا جنت من هذه الصفقة المهينة؟
بشأن قضية فلسطين فقد مرّ قرابة أربعين عاما من تودد مصر لإسرائيل وتسليم مفاتيح قرارها لأميركا ولا توجد أى بادرة أمل فى التسوية. فحتى إدارة أوباما التى حاولت أن تنتهج طريقة أكثر عدالة عن سابقاتها حين وصفت المستوطنات الإسرائيلية العام الماضى بأنها غير شرعية ودخلت بذلك فى مواجهة علنية مع إسرائيل، عادت وإضطرت للتراجع إزاء الضغوط الصهيونية، ولم تفلح فى وقف التوسع الإستيطانى الإسرائيلى ولو لمدة ثلاثة أشهر! لقد نسى صاحب القرار ومطلّع النهار (الرئيس السادات - كما غنّت له فايدة كامل) - أو قل تناسى - حين أعطى أميركا مفتاح القرار المصرى أن أميركا ستتصرف وفق قواعد اللعبة الصهيونية، وبالتالى فإن إسرائيل هى صاحبة المصلحة الحقيقية فى إمتلاك أميركا لهذا المفتاح.
ثم نأتى إلى حال مصر التى تصور رئيسها ومعه جموع ممن وافقوه عن جهل بالعواقب أن أميركا سوف تعيد بناء الإقتصاد المصرى بدولارات المعونة. لقد ضخت أميركا إلى مصر بالفعل بلايين الدولارات لكن لتبنى فقط طبقة من المستفيدين الذين يمكن أن يؤثروا على القرار المصرى من خلال ولائهم للعم سام مصدر النعمة. لكن تسليم مفاتيح مصر مكّن أميركا أيضا من إختراق مؤسسات الدولة فى مصر: الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والأمنية والعسكرية، كما فتح الأبواب لتدخل سافر فى أكثر خصوصيات الشأن المصرى، فرأينا أميركا تتدخل حتى فى إختيار رئيس مصر.
قبل الثورة إعترف الدكتور مصطفى الفقى فى لحظة صدق بأن الأميركيين لن يفرضوا على مصر رئيسا فى الإنتخابات القادمة لكنهم سيفتحون الأبواب أو يغلقونها أمام المرشح حسب ما يرتضوا. وهى صياغة ذكية لخصت مدى الإهانة التى أصابت إستقلال مصر. لن يفرضوا لكن لن يسمحوا. وبالأمس القريب وبالتحديد يوم ۲۷ فبراير الماضر زار القاهرة عضوى الكونجرس الأميركى جون ماكين وجوزيف ليبرمان (وميوله الصهيونية معروفة) وإجتمعا بالمسئولين في المجلس الأعلى للقوات المسلحة ثم بالسيد عمرو موسى. فى صباح اليوم التالى أعلن السيد عمرو موسى عن ترشيح نفسه لرئاسة مصر. فهل يمكن أن نستنتج أن أميركا فتحت له الأبواب على حد تعبير الدكتور الفقى؟
كما نجحت أميركا فى محاصرة دور مصر فى كل المجالات الدولية، فأصبح القرار المصرى فيما يخص العالم العربى يمر بواشنطن وتل أبيب وفتح ذلك مجالا أوسع للمصالح الأميركية فى المنطقة العربية خاصة فى منطقة الخليج التى كان يمكن لمصر أن يكون لها دور أكبر فى تنميتها. فرّطت مصر أيضا بتوجيهات أميركية صهيونية فى علاقاتها المميزة مع دول أفريقيا إلى أن وصل الأمر إلى تهديد دول منبع حوض النيل لمصر فى شريان حياتها: ماء النيل.
لقد بدأت القصيدة المشار إليها فى بداية المقال بوصف مُعبّر عن علاقة زليخة بجوزيف: " فلا زليخة عزيزة ولا جوزيف حرام" وإنتهت بهذا البيت الذى جاء على لسان زليخة ومزّق قلوب أبناء مصر الغيورين عليها: "عشانك يا عزيز أنام ويّا المعيز تتار وصهيونية طلاينة وإنجليز - بأحبك يا عزيز وأعزّك يا عزيز"
مصر اليوم هى زليخة مختلفة تماما – هى زليخة المصرية الأصيلة الشريفة، هى زليخة العزيزة الشامخة التى ستقول لعزيز "لأ" لأن قولة "لأ" دى عزة نفس لمصر السمراء، وجوزيف بالمعنى الذى خبرناه فى العقود الأخيرة ليس فقط حراما بل ستين حرام. فهنيئا لزليخة ثورتها الشعبية وهنيئا لها إستعادة عزتها وإستقلال قرارها.
محمد شكر
تورونتو – أبريل 2011
كاتب المقال: خبير واستشارى الاستشعار عن بعد ونظم المعلومات الجغرافية – تورنتو – كندا