عيد الفطر: احتفال القيام بالواجب وفرح الطاعة
العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله
يتوقف سماحة العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، مع دعاء الإمام زين العابدين(ع) في وداع شهر الله، وفي استقبال العيد المبارك، الذي يمثل احتفالاً إيمانياً بالطاعة والفرح الروحي مضيئاً على آفاقه، شارحاً لمعانيه وأبعاده..
" اللهم صلّ على محمد وآله واجبر مصيبتنا بشهرنا، وبارك لنا في يوم عيدنا وفطرنا واجعله من خير يوم مرّ علينا وأجلبه لعفو وأمحاه لذنب واغفر لنا ما خفيَ من ذنوبنا وما علن، اللهمّ اسلخنا بانسلاخ هذا الشهر من خطايانا، وأخرجنا بخروجه من سيّئاتنا، وأجعلنا من أسعد أهله به وأجزلهم قسماً فيه وأوفرهم حظاً منه".
العيد ومعنى الاحتفال:
إذا كان فراق شهر رمضان المبارك مصيبة على المؤمنين في ما يفقدونه ـ بغيابه ـ من بركات وألطافٍ ربانية، فإنّ العيد الذي يأتي بعده يمثل معنى الإحتفال بالقيام بالواجب وبركاته في معنى الرضوان، وصفاء الفرح الروحي، وانفتاح الإنسان على ساحة المسؤولية الواسعة في مدى الزمن، بعد فترة التدريب على تحمّل الحرمان من موقع الإرادة.. ولقد كانت تطلّعاتنا ـ يا رب ـ إليك أن تجبر مصيبتنا بشهرنا هذا بما تمنحنا من ألطافك، وأن تبارك لنا في يوم عيدنا وفطرنا، بالكثير من فيوضات كرمك وأن تجعل هذا اليوم أكثر الأيام مجلبةً للعفو، ومحواً للذنب، وأن نعيش فيه روح المغفرة لذنوبنا كلّها الظاهرة والخفية، حتى نعيش السعادة الإيمانية في الدنيا، والطمأنينة الروحية في الآخرة، فلا يبقى لنا ذنب نخشاه.. ولا نجد في نفوسنا أثراً للشقاء، فهناك الربح كلّ الربح، والنعيم كلّ النعيم في ظل عفوك وغمائم رحمتك.
"أللهم ومن رعى هذا الشهر حقّ رعايته وحفظ حرمته وقام بحدوده حقّ قيامها واتّقى ذنوبه حقّ تقاتها أو تقرّب إليك بقربة أوجبت رضاك له، وعطفت رحمتك عليه، فهب لنا مثله من جودك وأعطنا أضعافه من فضلك، فإنّ فضلك لا يغيض وإنّ خزائنك لا تنقص بل تفيض وإنه معادن إحسانك لا تفنى وإنّ عطاءك للعطاء المُهنا.
أللهم صلّ على محمد وآله، واكتب لنا مثل أجور من صامه أو تعبّد لك فيه إلى يوم القيامة".
عطاء الله لا يخضع لحسابات الزيادة والنقصان:
وهناك ـ يا رب ـ نموذج من الناس عاشوا الإيمان في قلوبهم وعقولهم، وحفظوا حرمات الله في التزاماتهم، ووقفوا عند حدود الله في مسيرتهم.. ولذلك رعوا هذا الشهر في ما يتميّز من الحق الإلهي في رعايته، وحفظوا حرمته في ما جعله الله له من حرمات في صيامه وقيامه، ووقفوا عند حدوده في حدود الحلال والحرام فيه، واتقوا الذنوب فلم يقتربوا منها من خلال وعيهم لنتائجها السيّئة على مستوى المصير، وتقرّبوا إليك بكل الأقوال والأفعال والعلاقات التي تقرب العباد إليك في ما تختزنه من مواقع محبّتك، وآفاق رضاك.. فرضيت عنهم وأعطيتهم من رحمتك كلّ الحنان والإشفاق، وأجزلت ثوابهم من عطائك الذي جعلته للمتّقين المخلصين.
وإذا كان كلّ عطائك لهم من موقع الفضل لا من موقع الإستحقاق، لأنّ عبادك لا يستحقّون عليك شيئاً، فإنّنا نسألك يا رب أن تهب لنا من خزائنك مثله وأن تضاعف لنا ذلك، لأن مسألة العطاء لديك لا تخضع لحسابات الزيادة والنقصان، لتخشى من نقصان خزائنك إذ زاد عطاؤك لأنّك تخلق ما تعطي منها كما تخلق ما يبقى فيها، فلا تفنى خزائنك بل تبقى ولا ينقص فضلك بل يزيد.. وتستمر يا رب في عطائك الذي يعيش عبادك في هنائه ورخائه وخيره، ومعنى السعادة الممتدّ في كلّ مواقع الإحسان لديك.
فهل نملك يا رب كلمات الشكر التي توفي حقّك، وهل نستطيع أن نبلغ معنى الحمد الذي يتميّز به فضلك. وهل نخشى ـ أمام كل كرمك الذي لا ينتهي عطاؤه ـ أن نطلب منك أن تمنحنا أجر من تعبد لك في صيامه وقيامه إلى يوم القيامة.
إنّنا لا نجد ما يسوّغ لنا ذلك من أعمالنا في ما تثيب به عبادك على أعمالهم الصالحة التي يتقربون بها إليك لينالوا ثوابك... ولكنّنا ـ في طلباتنا ـ لا ننظر إلى استحقاقنا بل ننظر إلى فضلك العظيم ومنّك الجسيم ورحمتك التي لا يبلغ مداها شيء. فاستجب لنا ذلك، يا أكرم الأكرمين.
"اللهم إنا نتوب إليك في يوم فطرنا الذي جعلته للمؤمنين عيداً وسروراً ولأهل ملتك مجمعاً ومحتشداً، من كلّ ذنب أذنبناه أو سوء أسلفناه أو خاطر شر أضمرناه، توبة من لا ينطوي على رجوع إلى ذنب ولا يعود بعدها في خطيئة، توبة نصوحاً خلصت من الشّك والإرتياب، فتقبّلها منّا وارض عنا وثبتنا عليها".
وهذا يوم الفطر الذي بدأنا به زمناً جديداً نتخفّف فيه من مسؤولية الصيام الذي فرضته علينا في هذا الشهر، وانطلقنا من خلاله إلى أجواء العيد في معناه العميق الذي يوحي إلينا، كمؤمنين ملتزمين، بأنّ طاعة الله في أيّ موقع من مواقع حركة الإنسان المؤمن، تمثّل عيداً يحمل في معناه كلّ أسرار الحيويّة الروحيّة للعيد، لأنّه يحقّق في عمق الروح كلّ معاني الفرح الرّوحي بالإنفتاح على الله في آفاق الثواب الإلهي.
وأردت ـ يا رب ـ أن يعيش المؤمنون السرور كلّه من خلال اجتماعهم على أساس فرح الطاعة في عيدهم، ومعنى الأخوّة في إسلامهم، وحركة القوّة القائمة على الشعور بالوحدة في خط ملّتهم التي هي ملّتك التي شرّعت لهم في وحيك.
ونحن نريد ـ يا رب ـ أن نعيش معنى العيد في حياتنا في ما نريد أن نعيشه من معنى الطهارة في أفكارنا ومشاعرنا وأعمالنا لنقترب قليلاً من طهر المواقع الإلهية التي نتقرب من خلالها إليك، وذلك بما فتحته أمامنا من أبواب التوبة التي تؤدي بنا إلى ساحة رحمتك وآفاق رضاك.
ولذلك، فإنّنا نتوب إليك ـ في يوم فطرنا هذا - توبةَ خالصةً مستقرّة في الأعماق، خالدة في العمر، نصوحاً في معناها، من دون شكّ ولا ارتياب، لأنها تنطلق من إيمان راسخ، وقناعة مطمئنة، بأن علينا أن نحصل على الإستقامة في دربك المستقيم فلا ينحرف بنا الشيطان عنه إلى مواقع الشرّ في ضلاله وطغيانه، وأن نقوم بتصحيح الخطأ الذي يوقعنا فيه الهوى الذي يتحرّك في خط الشيطان، فلا نرجع فيه بعد خلاصنا منه.
وهنا نحن نتوب إليك، لتكون توبتنا هدية العيد إليك ـ يا رب ـ عندما نقدّم نفوسنا المؤمنة في مواقع الطهر الروحي المنفتح على طهر القداسة في علياء مجدك.
إنّنا نتوب إليك من كلّ ذنب أذنبناه، أو سوء أسلفناه في ما مضى من أيام عمرنا من أقوالنا وأعمالنا، أو خاطر من خواطر السوء في فكرٍ منحرف يتحرّك في طريق الشرّ، أو نيّةٍ سيّئةٍ من نوايا السوء التي تتصل بالفساد في حركة الحياة وفي واقع الناس، حتى تخلص أفكارنا من قذارة الشرّ، وتطهر أجسادنا من رجس الخطيئة، لنقف بين يديك في إيمان خالص وتقوى منفتحة على طاعتك، فتقبّل منّا ذلك، وأعطنا من واسع رحمتك، وثبتنا عليه لنمتدّ في مواقع رضاك.
"أللهم ارزقنا خوق عقاب الوعيد وشوق ثواب الموعود حتّى نجد لذّة ما ندعوك به وكآبة ما نستجير بك منه، واجعلنا عندك من التوابين الذين أوجبت لهم محبتك وقبلت منهم مراجعة طاعتك، يا أعدل العادلين".
التوبة في العقل والوجدان:
إنّ التوبة النصوح التي نعمل لها ليست مجرّد فكرة تعيش في عقولنا، ومشروع يتحرّك في قرارنا.. بل نريدها شعوراً يفرض نفسه على مواقع الإحساس في شخصياتنا حتى ينطلق الفكر بحرارة تهزّ الكيان كلّه لتفرض الموقف على الواقع كلهّ وتدفعه إلى الثبات في إيحاءات الشعور، إضافةً إلى القوّة في معادلات العقل، والتوازن في حسابات المستقبل على مستوى النتائج الإيجابية المتّصلة بقضايا المصير.
ولكننا لا نستطيع بلوغ المنطقة الشعورية المنفتحة على ذلك الجوّ الروحي الداخلي، إلاّ بإعانتك لنا على الاستغراق في معاني العبودية الإنسانية الخالصة الخاضعة للإلوهية الخالقة الرحيمة.
ومن خلال ذلك، فإنّنا نسألك أن تغرس في أعماقنا الخوف العميق من العقوبة التي تنتظر العاصين من عبادك في ما توعدتهم به، حتى نشعر به كأية حالة من الحالات التي نواجه بها الحاضر والمستقبل في ما يحمله من عناصر الخوف في الواقع، ليكون خوف ما في الآخرة حالة شعورية متحركة في الروح تماماً كما هو خوف ما في الدنيا. كما نسألك أن تثير في مشاعرنا الشوق الروحي إلى الثواب الذي وعدت به عبادك المتّقين في ما جعلته لهم من ثوابك.. ليتحوّل ذلك الإحساس، في حالة الخوف من عقاب الوعيد والشوق إلى ثواب الموعود، إلى إحساس باللّذة في الدعاء في ما نطلبه منك من المغفرة والرضوان وشعورٍ بالكآبة في ما يطوف بأفكارنا ممّا نستجيرك منه من العقوبة والخسران.
ونتوسّل إليك أن تجعلنا من التّوابين في التوفيق للتوبة وفي قبولها لنحصل على محبّتك من خلال ذلك في ما أوجبته للتائبين من المحبة، ولنسعد بقبولك منّا العودة إلى طاعتك من جديد في ما تفتحه لنا من طريق السير إليك.. فإنّك أعدل العادلين في كلّ موازين العدل القائم على أن تعطي عبادك كلّ جزاء المحسنين.
"اللهم تجاوز عن آباءنا وأمّهاتنا وأهل ديننا جميعاً من سلف منهم ومن غبر إلى يوم القيامة".
الجميع بحاجة إلى رضاك:
وإذ كنّا ـ يا رب ـ نطلب إليك أن تتجاوز عنّا وتغفر لنا ذنوبنا بفضلك، فإنّنا لا نريد ذلك لنا ـ وحدنا ـ ولكنّنا نتذّكر آباءنا وأمهاتنا الذين أردتنا أن نشكرهم على ما أحسنوا به إلينا، كما أردتنا أن نشكرك على إحسانك العميم وفضلك الجسيم، كما نتذّكر كلّ أهل ديننا الذين نرتبط بهم بعلاقة الإيمان بك، والإلتزام بدينك الذي أرسلت به رسولك من كلّ هؤلاء الذين طواهم الزمن في غياهب الموت، ووفدو إلى جوارك ليواجهوا حسابهم بين يديك، ولينتظروا مصيرهم في حكمك العادل ورحمتك الواسعة.
إنّنا نتذكرهم، ونتذّكر حاجتهم إلى مغفرتك ورضوانك بعد أن فقدوا الفرصة في العمل الذي يمكّنهم من تصحيح أوضاعهم في ما اكتسبوه من الذنوب، أو واقعوه من الخطيئة... فنطلب إليك أن تتجاوز عنهم وتغفر لهم كما تتجاوز عنّا وتغفر لنا...
لنجتمع ـ غداً ـ عندك في ظلال الإيمان الذي هو سرّ الوحدة التي تجمعنا في ساحة دينك، ونلتقي في جنّتك في دار النعيم فنسعد برضاك.
" أللهم صلّ على محمد وآله كما صلّيت على ملائكتك المقرّبين، وصلّ عليه واله كما صلّيت على أنبيائك المرسلين، وصل عليه وآله كما صلّيت على عبادك الصالحين، وأفضل من ذلك يا ربّ العالمين، صلاة تبلّغنا بركتها وينالنا نفعها ويستجاب بها دعاؤنا، إنّك أكرم من رغب أليه وأكفى من توكّل عليه وأعطى من سئل من فضله وأنت على كلّ شيء قدير".
الإلتزام بخط الرسول وآله:
ويبقى للصلاة على محمد وآله الذين حملوا رسالته وساروا على منهاجه وانفتحوا على كل أهدافه، معنى الوفاء والإلتزام، فيبقى الإرتباط بالرسول وآله في خط الرسالة، تماماً كما أراد الله لنا أن ننفتح على ملائكته المقرّبين في ما أوكل الله إليهم من القيام بتنفيذ أوامره الكونيّة، وبالإستغراق في عبادته، وعلى أنبيائه المرسلين الذي تحرّكوا في مسيرة الرسالة الإلهية بكلّ إخلاص ومعاناة.
وللصلاة بركتها التي تنتفح على حياة الإنسان في ما توحي به من معاني الذكرى للروح الإيماني والرسالي الذي تثيره أسماء كلّ هؤلاء، فتبعث فينا الإحساس بالإخلاص لله ولرسالته كما أخلصوا له... وتتحرّك البركة الروحيّة ليستجاب بها الدعاء ويعود إلى حياتنا نفعها..
إنّنا نطلب منك ذلك كلّه وأكثر من ذلك، لأنّك أكرم من رغب إليه الراغبون، وأعطى من سأله السائلون، وأرحم من استرحمه المسترحمون، ولا يضيق عنك شيء من ذلك كلّه لأنّك على كلّ شيء قدير.