ثورة مصر ضد العسكر
هل كان من الصدف أن تتفجر أغلب انتفاضات الربيع العربي كردّات فعل عفوية على أعمال بطش عنيفة ارتكبتها الأنظمة العربية؟
في تونس قبل عام بالضبط، أحرق الشاب محمد البوعزيزي نفسه احتجاجاً على منعه من كسب رزقه، وثأراً لكرامته التي أهدرتها صفعةٌ تلقاها من يد شرطية عنيفة.
في مصر، اعتقل الشاب خالد سعيد على أيدي الشرطة في الإسكندرية، وخلال يوم واحد أعيد جثةً إلى أهله، مهشم الوجه بدرجة يصعب التعرف عليه. الحادث فجّر الصاعق في مصر، ونزل الشباب إلى الميادين وهم يهتفون: «كلنا خالد سعيد».
ما حدث في البلدين أثبت أن هذه الشعوب كانت تنتظر الشرارة الأولى حتى يخرج المارد الغاضب المكبّل من قمقمه، والعامل المشترك الذي فجّر الغضب العارم كان وحشية الشرطة. وفي البلدين لعب الجيش دوراً مهماً في إزاحة الرئيس، طوعاً أو كرهاً، ولقي ذلك ترحيباً واسعاً لدى الناس. وحين دخل الجيش ساحة التحرير وأخلى قوات الأمن والشرطة المكروهة شعبياً، استقبله الجمهور بالترحيب. يومها كان الكثيرون يلتقطون صوراً إلى جانب الدبابات أو وهم يصافحون الجنود. ما الذي تغيّر؟
مشاعر الكراهية للشرطة كانت منذ أيام السادات وربما قبلها بكثير، وتعمّقت أكثر في ظل حسني مبارك، إذ اعتمد عليها كذراع غليظة لقمع أيّ تحرك شعبي. وعندما سقط كان منتسبو الشرطة يقدّرون بمليون شخص... وهو رقمٌ مهولٌ يعني ببساطة، أنه لكل ثمانية مصريين يوجد شرطي لكبحهم وقمعهم. التجربة كشفت أن هذه القوة المهولة لم تستمر لأكثر من شهرين، فالعنف الذي كانت تمارسه كان يراكم غضباً عارماً في القلوب، ينتظر أية فرصة ليتنفس كالبخار المكتوم في الطنجرة.
ما جرى هذا الأسبوع في ميدان التحرير أطاح بغطاء الطنجرة مرةً أخرى، وهذه المرة على يد الجيش. والمصريون الذين آمنوا بأن الجيش حامي ثورتهم، ذهلوا وهم يرون عشرةً من جنوده يتحلّقون حول امرأة عزلاء، يتنافسون على ركلها بأحذيتهم، وضربها بأعقاب بنادقهم، ويُكملون مهمتهم البطولية بسحلها في الشارع وقد تعرّى الجزء الأعلى من جسمها. كان منظراً صادماَ للضمير، وإشارةً إلى ما بلغه العسكر من درجة في الاستهتار بالقيم والأعراف والتقاليد، فضلاً عن الاستخفاف بأرواح وكرامة البشر.
الجيش حاول أن يرقّعها ففشل، فالتعدّي على امرأة كان يعتبر فضيحةً عند العرب حتى أيام الجاهلية، ويظلّون يعيّرون بها أبناء وأحفاد من مدّ يده على امرأة... فكيف بجيش مصر الذي خاض معارك بورسعيد والاستنزاف ورمضان؟ لم يكن مقبولاً على الإطلاق.
أحد ضباط المجلس العسكري عقد مؤتمراً صحافياً، لكنه ظهر واهناً في منطقه، ولم يقنع أحداً بصحة هذه الممارسات البربرية التي لا يقبلها أحدٌ في القرن الحادي والعشرين. في الداخل نزلت الجماهير إلى الميادين مرةً أخرى احتجاجاً. ناطقٌ باسم الأمم المتحدة دعا الحكومة المصرية لاتخاذ خطوات عاجلة لتحسين علاقة الشرطة مع المواطنين، وإعادة تعليم شرطتها على أبسط القيم الإنسانية، وخصوصاً أن من يباشرون مهمات القمع القذرة من الأميين المنحدرين من بيئات فقيرة يعمها الجهل. وحين ندّدت هيلاري كلينتون بإهانة النساء بهذه الطريقة، ردّ عليها ضابطٌ آخر بأنه تدخلٌ في شئون مصر! دعونا نفعل ما نريد حتى لو سحلنا فتيات مصر في الشوارع!
الشرطة والعسكر ارتبطا تاريخياً في ذاكرة الشرقيين بالقمع والقتل والقهر والنهب... وزادتها كراهيةً عمليات سحل النساء واستهداف المتظاهرين المسالمين بالحجارة على طريقة البلاطجة
قاسم حسين
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 3393 - الخميس 22 ديسمبر 2011م الموافق 27 محرم 1433هـ
هل كان من الصدف أن تتفجر أغلب انتفاضات الربيع العربي كردّات فعل عفوية على أعمال بطش عنيفة ارتكبتها الأنظمة العربية؟
في تونس قبل عام بالضبط، أحرق الشاب محمد البوعزيزي نفسه احتجاجاً على منعه من كسب رزقه، وثأراً لكرامته التي أهدرتها صفعةٌ تلقاها من يد شرطية عنيفة.
في مصر، اعتقل الشاب خالد سعيد على أيدي الشرطة في الإسكندرية، وخلال يوم واحد أعيد جثةً إلى أهله، مهشم الوجه بدرجة يصعب التعرف عليه. الحادث فجّر الصاعق في مصر، ونزل الشباب إلى الميادين وهم يهتفون: «كلنا خالد سعيد».
ما حدث في البلدين أثبت أن هذه الشعوب كانت تنتظر الشرارة الأولى حتى يخرج المارد الغاضب المكبّل من قمقمه، والعامل المشترك الذي فجّر الغضب العارم كان وحشية الشرطة. وفي البلدين لعب الجيش دوراً مهماً في إزاحة الرئيس، طوعاً أو كرهاً، ولقي ذلك ترحيباً واسعاً لدى الناس. وحين دخل الجيش ساحة التحرير وأخلى قوات الأمن والشرطة المكروهة شعبياً، استقبله الجمهور بالترحيب. يومها كان الكثيرون يلتقطون صوراً إلى جانب الدبابات أو وهم يصافحون الجنود. ما الذي تغيّر؟
مشاعر الكراهية للشرطة كانت منذ أيام السادات وربما قبلها بكثير، وتعمّقت أكثر في ظل حسني مبارك، إذ اعتمد عليها كذراع غليظة لقمع أيّ تحرك شعبي. وعندما سقط كان منتسبو الشرطة يقدّرون بمليون شخص... وهو رقمٌ مهولٌ يعني ببساطة، أنه لكل ثمانية مصريين يوجد شرطي لكبحهم وقمعهم. التجربة كشفت أن هذه القوة المهولة لم تستمر لأكثر من شهرين، فالعنف الذي كانت تمارسه كان يراكم غضباً عارماً في القلوب، ينتظر أية فرصة ليتنفس كالبخار المكتوم في الطنجرة.
ما جرى هذا الأسبوع في ميدان التحرير أطاح بغطاء الطنجرة مرةً أخرى، وهذه المرة على يد الجيش. والمصريون الذين آمنوا بأن الجيش حامي ثورتهم، ذهلوا وهم يرون عشرةً من جنوده يتحلّقون حول امرأة عزلاء، يتنافسون على ركلها بأحذيتهم، وضربها بأعقاب بنادقهم، ويُكملون مهمتهم البطولية بسحلها في الشارع وقد تعرّى الجزء الأعلى من جسمها. كان منظراً صادماَ للضمير، وإشارةً إلى ما بلغه العسكر من درجة في الاستهتار بالقيم والأعراف والتقاليد، فضلاً عن الاستخفاف بأرواح وكرامة البشر.
الجيش حاول أن يرقّعها ففشل، فالتعدّي على امرأة كان يعتبر فضيحةً عند العرب حتى أيام الجاهلية، ويظلّون يعيّرون بها أبناء وأحفاد من مدّ يده على امرأة... فكيف بجيش مصر الذي خاض معارك بورسعيد والاستنزاف ورمضان؟ لم يكن مقبولاً على الإطلاق.
أحد ضباط المجلس العسكري عقد مؤتمراً صحافياً، لكنه ظهر واهناً في منطقه، ولم يقنع أحداً بصحة هذه الممارسات البربرية التي لا يقبلها أحدٌ في القرن الحادي والعشرين. في الداخل نزلت الجماهير إلى الميادين مرةً أخرى احتجاجاً. ناطقٌ باسم الأمم المتحدة دعا الحكومة المصرية لاتخاذ خطوات عاجلة لتحسين علاقة الشرطة مع المواطنين، وإعادة تعليم شرطتها على أبسط القيم الإنسانية، وخصوصاً أن من يباشرون مهمات القمع القذرة من الأميين المنحدرين من بيئات فقيرة يعمها الجهل. وحين ندّدت هيلاري كلينتون بإهانة النساء بهذه الطريقة، ردّ عليها ضابطٌ آخر بأنه تدخلٌ في شئون مصر! دعونا نفعل ما نريد حتى لو سحلنا فتيات مصر في الشوارع!
الشرطة والعسكر ارتبطا تاريخياً في ذاكرة الشرقيين بالقمع والقتل والقهر والنهب... وزادتها كراهيةً عمليات سحل النساء واستهداف المتظاهرين المسالمين بالحجارة على طريقة البلاطجة
قاسم حسين
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 3393 - الخميس 22 ديسمبر 2011م الموافق 27 محرم 1433هـ