حتى الصور باتت خادِعة
محمد عبدالله محمد ... كاتب بحريني
Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com
تصغير الخطتكبير الخط
ماذا بَقِيَ لنا كي لا نُخدَع. الكلمة؟ ربما، لكنها قد تُحرَّف. فتقال كلمة الحق، لكي تُوصِل إلى باطل. ثلاثة عشر مليون مفردة في لغتنا العربية، يتمُّ ليُّها لتثبيت أفكار متباينة، ليس بالضرورة أن تكون صحيحة. فالحق يُدافع عن نفسه بالحجَّة، بذات المقدار الذي يقوم به الباطل كذلك.
حتى الصورة، التي تعلَّمنا أنها هي الأمضى في تشكيل الوعي والشعور بالأشياء، باتت تُوظَّف بأشكال مختلفة، بما فيها شكل الباطل نفسه. سابقاً كان يُقال، بأن الصورة توازي ألف كلمة، لكنها اليوم، باتت أقلّ من ذلك التوصيف بدرجات، لأنها أصبحت بألف رأيٍ باطل.
عندما أتابع الأخبار والتقارير من مختلف الجهات الإخبارية في العالَم، أتفاجأ من حجم التزوير والافتئات. حتى باتت الناس تُقتَل على يد جزَّاريها، ثم يظهر الجزَّارون أمام ضحاياهم وهم يبكون، متهمين أطرافاً أخرى بفعل ذلك. عجباً! صورة متكاملة، تتضمن الوحشية والعاطفة، لكنها مُزوَّرة، تُطرح في وسائل الإعلام على غير ما كانت عليه أساساً!
لو افترضنا، أن 300 مليون مشاهد رأوا هذا المشهد، وتشرَّبوه، وتعاطفوا مع ضحاياه، وبَكَّائيه، فكيف لأحد أن يقدر على تصحيح هذه الصورة لاحقاً؟ وإذا استطاع أن يقوم بحملة مضادة للتصويب، فكم سيظفر من أولئك الملايين الثلاثمئة، لكي يستطع أن يُغيّر ما في قناعاتهم حيال ما رأت أعينهم أول مرة؟ إنها معضلة.
كان أستاذنا عبد الله الزين الحيدري يقول في كتابه «الصورة والتلفزيون... بناء المعنى وصناعة المضمون» في شأن الصورة أنها «مدلول بسيط يُدركه الفرد بحسّه، ويبدو هذا المدلول بعيداً عن التعقيد»، مضيفاً «إن عملية الإدراك تنحصر في مستوى تعيين الأشياء الذي يحدث بسرعة فائقة لدى الفرد الاجتماعي لأن طبيعة النظام البصري تسمح بمسح المشَاهِد البارزة والأشكال الواضحة في مدّة زمنية وجيزة تُمكّن الناظر من حصر شكل من الأشكال وتعيينه حسب المخزون المتوفّر في الإطار المرجعي». انتهى.
صورة، يتم وضعها بإحكام في نظام التوليف والتناسق والحركة وتوازن الألوان ومضمونها المحكي والإبداع، كيف يُمكن لأحد أن يكشف زيفها وبطلان رسالتها؟ في غير مرة أتلقى عديداً من مقاطع الفيديو، أو الصور الثابتة الموظَّفة بشكلٍ حادٍ ضد أطراف محددة، ضد أنظمة وضد معارَضات، وضد شخصيات وشركات! ما العمل أمام كل ذلك لكي نفرز السليم من السقيم؟
الحقيقة، أن هذا الإشكال ليس أمراً سهلاً. فالصورة بطبيعتها قد ألقَتْ أناساً من القمَّة إلى الحضيض، والعكس صحيح. كما أن الصورة على مرِّ تاريخها، كانت مصدراً مهماً للدعاية السياسية والاقتصادية والعسكرية، وأيضاً وسيلة مُثلَى لتشكيل الرأي العام تجاه قضية ما.
لكنه ورغم كل ذلك، فإن هناك عدداً من الضوابط، التي من خلالها يُمكن لَجْم أي انفلات غَرَضِي للصورة، نشير إليها كالتالي:
الصورة تعني الاستمرارية: وما نعنيه بذلك، هو أن يتم إدراك، أن الصورة، ليست مقطعاً زمنياً مُحدداً ومنفرداً، وبالتالي لا يُمكن البناء عليه من خلال المشاهدة اليتيمة، وإنما من خلال السياق الصُّوَرِي السابق واللاحق له، وذلك بغرض تكوين لاشعور مرتكز على التكرار الإيجابي، الذي يُكوِّن صورةً أعَم في النهاية. وهو في الحقيقة، من أكثر الوسائل المنهجية كشفاً لعمليات التدليس.
فعادةً ما تُوفِّر الحروب والأزمات ملايين الصور المختلفة والمتباينة الجهات والشكل والمصدر، لكي يتوفر مشهد أكثر حِدِّية وانحيازاً. ولو رجعنا إلى مضابط لجان التحقيق التي شُكِّلت في الحروب والأزمات السياسية، سنقِف على ذلك المبدأ بشكل جَلِي، حيث أنه يُعتبر أحد أهم المصادر التي تعتمد عليها، وكذلك، أحد الأشياء الأساسية المشكِّلة لنتائجها التي تخلُص إليها.
الصورة تعني تقصِّي اللفظ: إذ لا يُمكن أن تمنحك الصورة لوحدها، إرهاصات الموضوع، ولا مشروعيته، ولا مساره الفعلي، دون المتابعة اللفظية الاستقرائية لها، وذلك بهدف تدعيم الوجدان البشري عند الأفراد والجماعات، ثم التفاعل بشكل إيجابي عند مواجهة أي مثير بَصَرِي. فالصورة تعتبر مُحرِّكاً هلامياً غير واضح إذا لم يدعمها لفظ متماسك ومتَّزِن.
إن الصُّور والنصوص، تحتاج إلى تفسيرات لقضاياها، لكي يتم ربط المثير البصري، بالمكوِّن اللفظي، اللذين يتماثلان في الأدوار. وعندما يغيب مثل هذا الأمر، تتحوَّل الصورة إلى صورة ناقصة الأركان، ولا تتوافق ولحظة التقاطها.
الصورة تعني الماورائية: إذ أن الصورة، لا يُمكن فصلها عن سياق هدفها الموضوع له. بمعنى، أنه يجب التحقق من أية صورة يتم تداولها، وما إذا كانت في سياق طبيعي أم أنها قد تعرَّضت للتوجيه المتعمَّد. فكثيرٌ من الصور تكون حقيقيةً، لكن الذي يحصل أنها تُخلَع من زَمَكَانيتها.
وعندما يتم المتاجرة بالصورة، من بلدٍ إلى آخر، ومن زمان إلى آخر، تتحوَّل إلى عملية تزوير جوَّال، خَرَجَت من سياقها الطبيعي لصالح تدعيم الآراء والمواقف السياسية والفقهية والفكرية وغيرها. لذا، فإن الوقوف على خلفيات الصور، هو عامل أساسي لفهم ما ترمي إليه الصورة.
الصورة تعني القياس الجِهَوي: وما أعنيه بالقياس الجِهَوي ليس الحالة السلبية للانحياز، بل قياس عدة متغيرات للجهة التي تتبنى الصورة. ففي الأغلب، تكون الحكومات غير الرشيدة، عُرضَة للتآكل فيما خصَّ مصداقية أقوالها وأفعالها، بعكس الجهات المعارضة المدنية، التي لا تمتلك القوة المادية في تصريف شئونها، أو تحقيق مطالبها.
إذ لا يُمكن قياس توظيف الأنظمة للصورة بذات المقاس الذي تقوم به الجهات المعارِضَة لها (دون أن يمنع ذلك من حصول العكس أيضاً ولكن نحن نتحدث من حيث المبدأ). فامتلاك النظام للقوتيْن المادية والآيدلوجية، يجعله مُعَرَّضاً أكثر من غيره للشَّطط، وبالتالي يتغيَّر القياس معه.
في كل الأحوال، فإن الصورة في الإعلام المسَيَّس لم تعد بذات البراءة في السابق. وهي تتضخَّم وتُسرَق كلما توسَّعت وتشابكت المصالح، وتباينت الآراء.
محمد عبدالله محمد
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 3918 - الخميس 30 مايو 2013م الموافق 20 رجب 1434هـ